إن الحرص على جمع المعلومات عن العدو معروف منذ القدم عند كل الأمم، وهو نظام يتسم بالسرية في التحرك والتنقل، وهو ما يطلق عليه الاستخبارات، والاستخبارات العسكرية جزء من منظومة الأمن في الدول المعاصرة، فكل دولة تهتم بحفظ أمنها ورصد ما يحاك بها من دسائس ومؤامرات، والتعرف على قدرات العدو العسكرية؛ مواقعه، وأسلحته، وقواته، وكذلك نقاط ضعفه، وتستخدم في ذلك كل ما يتاح لديها من قدراتها المتنوعة البشرية والمادية، وزرع الجواسيس بين العدو حتى يستطيع البحث والتفتيش والوصول إلى الأخبار والمعلومات السرية للاطلاع عليها وتحليلها والاستفادة منها في إعداد خطة المواجهة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قدوة لأمته في النواحي الدينية والدنيوية، فهو مثال للقادة في ميدان الحرب، وقدوة للحكام في شؤون السياسة والإدارة، فقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بالجوانب الأمنية لتأمين الدعوة في مهدها والحفاظ عليها من بطش قريش، فمنذ نزول الوحي اهتم النبي صلي الله عليه وسلم بالجانب الأمني أشد الاهتمام، واتخذ ترتيبات أمنية للحفاظ على أسرار الدعوة مصونة وبعيدة كل البعد عن الجهات المعادية، فكان يتحرى السرية في الدعوة والحذر والحيطة، فظلت الدعوة سرية 3 سنوات لا تعلم عنها قريش شيئًا حتى جهر بها النبي صلى الله عليه وسلم، واتخذ دار الأرقم بن أبي الأرقم مكاناً يجتمع فيه المسلمون بعيدًا عن أعين قريش.
وقد ظهر هذا التطور الأمني في بيعة العقبة التي تم الاتفاق عليها سرًّا في أوسط أيام التشريق ليلاً، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار بكتمان الخبر عن المشركين، ومن أروع ما تم عمله من مهام سرية للدعوة القيام بالهجرة إلى المدينة باختيار الوقت والمكان المناسبين ووسائل التمويه بإخفاء الأثر، وتضليل قريش بالسير في الطريق المهجور(1).
اهتمام النبي بالاستخبارات العسكرية
اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بنظام الاستخبارات في جمع المعلومات عن عدوه ورصد تحركاته، ومعرفة ما يخطط له، وسعى في دحض العدوان بمختلف الوسائل، وقد كان لجهود الاستخبارات العسكرية التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته أثر كبير في الاستعداد للعدو ومفاجأته في المعركة أو زجره عن استئناف القتال أحيانًا أخرى، وعمل على تأسيس جهاز الاستخبارات لرصد التحركات الخارجية والداخلية المعادية للمسلمين، والتعرف على المؤامرات التي تحاك ضدهم حتى يستطيع أخذ الحذر والحيطة والاستعداد للمواجهة مع العدو في ميدان القتال، ومن تلك الترتيبات التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم لأداء هذا الجهاز مهمته بإتقان:
– اختيار الجواسيس الثقات: التجسس منهيّ عنه في الحياة المدنية بين الناس بعضهم بعضًا امتثالًا لقوله تعالى: (وَلَا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: 12)، أما في الحرب فهو من الأمور المباحة، ويقصد به تتبع أخبار العدو ومحاولة معرفة المعلومات السرية الخاصة به؛ لأخذ الحيطة والحذر، ويطلق عليهم في المصادر التاريخية «العيون».
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عيون داخل المدينة وفي مكة وبين القبائل ينقلون إليه الأخبار، فكان عمه العباس بن عبدالمطلب، وبشير بن سفيان العتكي في مكة، وفي القبائل الأخرى كان له عدة عيون مثل عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي في قبيلة هوازن، وحسيل بن نويرة عين النبي صلى الله عليه وسلم المتجول بين القبائل، وكان له عيون في بلاد فارس والروم.
– الاستطلاع: جمع المعلومات الدقيقة عن العدو، واكتشاف مواقعه المتقدمة والخفية بغية المساعدة في اتخاذ القرار بناء على تحليل تلك المعلومات المتوفرة عن حجم القوات ومراكز تجمعها ونوعية الأسلحة وطرق الإمداد والتمويل وما إلى ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على إرسال دوريات الاستطلاع قبل خروجه إلى «بدر» للحصول على أكبر قدر من المعلومات عن قريش، فأرسل عبدالله بن جحش في نفر من الصحابة يرصدون أخبار قريش، وبعث طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، إلى طريق الشام يتحسسان أخبار عير قريش، ومرة أخرى أرسل بُسَبْس بن عمرو في 30 رجلاً ليأتوه بأخبار العير، فعادوا يخبرونه أن العير قاربت بدرًا، ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين علم بمسير قريش لمنع عيرهم.
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش في السنة الثانية من الهجرة في 12 رجلاً ومعه كتاب مختوم أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين حتى يصل إلى مكان معلوم حدده له، فلما وصل ذلك المكان وآن فض ذلك الكتاب، فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض على اسم الله وبركاته لا تكرهن أحدًا من أصحابك على السير معك وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم»(2).
دور الاستخبارات العسكرية في «بدر» و«أُحد»
لما دنا النبي صلى الله عليه وسلم من «بدر» ليلة 17 رمضان، بعث عليًا، والزبير، وسعدًا، يلتمسون له الخبر، فأصابوا غلامين لقريش، فأتوا بهما للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه أنهما سقاة قريش أرسلوهما ليسقيا لهما، وأن قريش بالعدوة القصوى خلف الوادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كم القوم؟»، قالا: كثير، قال: «كم عدتهم؟»، قالا: لا ندري، قال: «كم ينحرون؟»، قالا: يومًا تسعًا ويومًا عشرًا، قال: «القوم بين تسعمائة إلى الألف»، وقال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟»، فذكرا منهم: عتبة، وشيبة ابني ربيعة، وحكيم بن حزام، والنضر بن الحارث، وأبو جهل، وأمية بن خلف، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن ود.. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها»(3).
وفي استجواب النبي صلى الله عليه وسلم للأسيرين تتضح الرؤية الإستراتيجية في توظيف الخبرات المعرفية والقدرات العقلية في تحليل المعلومات التي حصل عليها من الأسيرين واتخاذ القرار المناسب، فاتخذ موقع جيشه بعناية خلافًا لقريش التي كانت مفاجأتهم كبيرة عندما وجدوا المسلمين أمامهم في مواقعهم التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم بعناية، وهم في موضع ليس لهم فيه اختيار، وأصبح الماء بحوزته، وهو المتحكم فيه دونهم، فأثر العطش فيهم وأضعف قدرتهم على القتال(4).
ولما تجمعت قريش لقتال النبي صلى الله عليه وسلم في «أُحد» أسرع العباس بإبلاغ تلك الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على وجه السرعة، حتى إنه قطع المسافة بين مكة والمدينة في 3 أيام ليبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ أُبي بن كعب على النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه ألا يبوح بمضمونها لأحد(5).
وعقب غزوة «أُحد» انتدب النبي صلى الله عليه وسلم في أتباعه للقيام بمهمة خاصة كان لها أثر كبير في صد قريش عن استئناف القتال، فقد توقع النبي صلى الله عليه وسلم عودة المشركين للقتال مرة ثانية بعد الغزوة، فسار لملاقاتهم حتى موضع «حمراء الأسد»، وطلب من معبد الخزاعي أن يُخذِّل المشركين عن القتال، فلما قابل أبو سفيان حدثه عن كثرة المسلمين، وإصرارهم على تتبعهم والثأر والانتقام ليوم أمس، فأثّر ذلك في نفوسهم وانسحبوا بعد أن كانوا عازمين الزحف إلى المدينة(6).
وهكذا كان للاستخبارات العسكرية أثر كبير في توخي الحذر الحيطة وحسن الاستعداد والتخطيط في غزوتي «بدر» و«أُحد» التي أشرنا إلى جانب منهما.
____________________
(1) ابن كثير: البداية والنهاية، ج3، ص 157،176.
(2) البلاذري: أنساب الأشراف، ج1، ص345.
(3) ابن الأثير: الكامل في التاريخ (2/15-16).
(4) فتح الباري، كتاب: المغازي، باب شهود الملائكة بدرًا، شرح حديث (3743).
(5) الواقدي: المغازي، طبعة مارسدن جونس، ج1، ص203.
(6) الكامل في التاريخ، ج2، ص52.