من الحكمة والرحمة بأنفسنا وبمشاعر إخواننا في سورية ألا نقلل من فرحتهم ومن فرحتنا لهم ونبخسهم ونعترف بفضل الله تعالى علينا أن أخرج المظلومين من سجون المجرمين في سورية ونشارك الفرحين؛ مشاعرهم وفرحتهم بسقوط عائلة طاغية جثمت على أنفاسهم وساموهم سوء العذاب سنين، ونسأله سبحانه أن يجعل لإخواننا المأسورين المعتقلين فرجاً عاجلاً غير آجل في كل مكان.
ومن الحكمة أيضاً وبشكل متوازٍ أن يقرأ حكماء الثورة الفاعلون في المشهد السوري على الأرض بعين متجردة وبعمق وبنظر للواقع، حتى نعرف ونفهم ما يدور حولنا وكيف نتعامل معه، ولا نقع في فخوخ أخرى نُصبت لنا وللثورات من قبل.
فلقد كان الإعلام الموجه ولا يزال هو الدبابة الناعمة قبل الدبابة العسكرية الخشنة الذي يصيغ ويسيّغ العقول ويفرض ويعرض المشاهد تحت مسميات الحرية المسلوبة والأوطان المنهوبة ورفع المجاهدين والمقاومين والثوريين فوق الرؤوس ويتم التغرير بهم ومن ثم الاستيعاب! ثم يتم تشويه الحالة الثورية رويداً رويداً، ثم الانقضاض عليها وسرقتها بعد أن تتم سرقة المشهد برمته لتعود ريمة لعادتها القديمة وتبقى الفوضى!
فمسمى «ردع العدوان» بسورية يجب أن يكون متوازناً وواقعياً، فما حدث ويحدث لم يكن ردعاً فقط، إنما كان متوازياً مع تنسيقات وتفاهمات بين القوى الموجودة على الأرض التي تحكمها المصالح في سورية ومنطقتنا، بدأت داخل الغرف السياسية والعسكرية المغلقة، فلا نقلل أبداً ونختزل المشهد السوري فيما يحدث الآن، إنه مشوار طويل سُرقت فيه حرية الإنسان التي هي أغلى ما يملكه، طريق بُذلت فيه أرواح وأريقت فيه دماء، واستُبيحت فيه أعراض، وتدنت فيه إنسانية الإنسان، وسيصل إلى منتهاه، بإذن الله.
لذلك، يجب على الخطاب الثوري أن يكون متوازناً ومتوائماً بين واقع معقد لا يمكن البت فيه قبل فهمه، ومستقبل مجهول، وظروف استثنائية، فحركة الجماهير بعد أن نالت حريتها المسلوبة يجب ألا تتحول إلى تيار هادر، مليء بالمطالب، بل يجب أن يلتف الشعب حول مفهوم التغيير المتوازن، فالكثير جاهل بالمعنى الحقيقي للحرية، فليست هي بزوال بشار ومن على شاكلته فحسب، وليست بمجيء المُنقذ المُخَلِص، لكن على الجميع أن يعرف أن الثورة لن تصل بسورية لطموحات مكيافيلي بالمدينة الفاضلة، لكنّه العمل وفق السُنن التي لا تحابي أحداً.
ولتتعلم سورية من دروس الماضي في تونس ومصر وغيرهما، ولا تأخذنا العاطفة، لنلملم الجراح، فالتحدي الحقيقي هو في كيفية إدارة اللحظة بما فيها من مصالح وتدخلات وتفاهمات، وذلك بجمع الكلمة ووحدة الصف المحب لدينه ووطنه، فهذا نبي الله هارون، بعد أن عاد موسى من رحلته لديار شعيب وجد قومه يعبدون العجل فأخذ برأس هارون يجره إليه غاضباً منه يقول له: كيف تركت بني إسرائيل يفعلون ذلك؟! فما كان من رد هارون أن قال: (خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (طه: 94)، إنها الفرقة الحالقة لكل شيء، وهكذا غلَّب هارون الوحدة على أمر العقيدة والإيمان، كيف فقه وقاس ذلك ورجحه؟! ذلك لعلمة بخطورة الفرقة وأثرها على قومه.
ليكن العمل على وحدة الصف أولى الأولويات وردع الفرقة، الفرقة التي زرعها بيننا عدونا ولا يزال دون كلل أو ملل، فلنحذر من تقسيم سورية؛ قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46).
إن لحظات التغيير عملية تراكمية ناتجة عن عقود طويلة من الزمن، وهي ليست ثورات لإلغاء طوابير الأفران، ولا لتوزيع الخبز المجاني، ولا لتحسين قيمة العملة، بل قيمة الحرية التي هي أكبر من ذلك بكثير، ذلك بالحكمة ومحاولة الاستشراف المدروس لما هو قادم والاستفادة من التجارب الماضية، بناء على تحليل موضوعي وإدراك مُحكم لسيناريوهات يُخطط لها عدو يتعب ويألم ويعمل عليها منذ زمن في سبيل تحقيق أطماعه ولاستمرار الفوضى والفرقة التي هي أشد وطئاً.
إن دراسة النصر وتثبيته أهم بكثير من دراسة أسباب الهزيمة وتداعياتها، وكلاهما مهم، ولا شك أن فارق الإمكانات بين طرفي الرهان الطامحين للحق والحرية، وسارقي ثورات الشعوب وحريتهم لكبير، لكنها معية الله وهو معهم ولن يترهم.
فهل يدرك أصحاب الحق ذلك؟ ليكن جل اهتماهم وحدة الصف المخلص وردع الفرقة.
وهذا كله لا يُنسينا أبداً أن هناك أيادي خفية على الأرض صادقة بذلت ما لديها من أسباب؛ تحقيقاً لسنن الله تعالى في غزة الصامدة والثوار المخلصين بسورية ومن يدعمهم.
فقد هزوا النخلة وطرقوا الباب وضربوا بالعصا، وسيتحقق نصرهم بإذن الله مهما كانت التفاهمات والمصالح، فالله من وراء كل مخططاتهم محيط، وفي الوقت نفسه لا يعجبني قول أحدهم: إن هناك من يُعظِّم سيناريوهات المؤامرة.
اختلف معه؛ فالتفكير الإيجابي والاستشراف أمر مطلوب، ونظرية المؤامرة أصل أصيل في كتاب الله في التعامل مع العدو، وآيات الله في كتابه الدالة على ذلك كثيرة قال تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) (البقرة: 217)، (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: 120)، ووراء كل ذلك خالق عظيم مدبر، له الخلق والأمر هو بالغ أمرة وأعلم بخلقه قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق: 3).