فترة الاختبارات ليست مجرد أيام تقاس فيها درجات التحصيل العلمي للأبناء، بل مرحلة فاصلة في تكوين شخصياتهم، إذ يواجهون خلالها التحديات النفسية والضغوط المجتمعية التي تكشف مقدار ثقتهم بأنفسهم وبربهم.
وفي هذه المرحلة تحديدًا، يظهر دور الإيمان كركن أساس في تهيئة الطالب وتزويده بما يعينه على تجاوز ضغوط هذه المرحلة، فالجانب الإيماني يربط القلوب بالله عز وجل، ويوجه العقول لبذل الجهد ثم التسليم بقضاء الله وقدره دون إفراط في القلق أو يأس من النتيجة.
كان السلف الصالح يعلمون أبناءهم أن الحياة امتحان في كل تفاصيلها، وأن النجاح يتطلب الصبر واليقين والاجتهاد مع التوكل على الله، فقد روي عن الإمام الشافعي، وهو أحد أعلام أمتنا، أنه كان يردد في طلب العلم: «شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي»، لتكون رسالته واضحة بأن التوفيق يبدأ من إصلاح العلاقة مع الله تعالى، وكذلك كانت أمهات الصحابة يهيئن أبناءهن للشدائد منذ الصغر، يزرعن فيهم الإيمان بأن الله وحده المعين، وبأن الدعاء هو السلاح الأهم في مواجهة التحديات.
وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم، حين اشتدت عليهم الأزمات مثلما حدث في غزوة «الخندق»، كان النبي صلى الله عليه وسلم يثبّت قلوب أصحابه بتذكيرهم بأن النصر يأتي مع الصبر واليقين، مرددًا: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة».
إن الإمام مالك أيضًا كان مثالًا آخر يُظهر كيف يجتمع الاجتهاد العلمي مع التوكل على الله، فقد قال حين سُئل عن سر صبره على تحصيل العلم: «ما كان لله يبقى»، هؤلاء العلماء وأمثالهم لم يفصلوا العلم عن الإيمان، بل جعلوا النجاح في الدنيا والآخرة ثمرةً لعلاقة العبد بربه، يُجملها قوله تعالى: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف: 30).
وفي عصرنا الحديث، يغيب عن كثير من الأسر أهمية تعزيز الإيمان في نفوس الأبناء خلال فترة الاختبارات، إذ يركزون على الجوانب العملية والمذاكرة المكثفة وحدها، متناسين أن الجانب الروحي هو الأساس الذي ينطلق منه النجاح الحقيقي.
إن التربية الإيمانية التي ترتكز على الدعاء واليقين والرضا تُخفف عن الأبناء القلق وتمنحهم طمأنينة القلب، وقد أثبتت الدراسات النفسية الحديثة أن الأشخاص الذين يعتمدون على الصلاة والدعاء في أوقات الضغط لديهم مستويات أقل من القلق والتوتر، بل إنهم أكثر قدرة على التركيز وأعلى كفاءة في مواجهة التحديات.
وإذا تأملنا في تجارب الشعوب الأخرى، نرى كيف يُمثل الإيمان عنصراً مشتركاً يُعزز السكينة، ففي الديانة المسيحية، يتوجه الأبناء إلى الصلاة قبل الامتحانات بحثًا عن التوفيق من الله، إذ يتعلمون أن العقل الهادئ هو عقل ناجح، وفي الثقافات الشرقية مثل البوذية والهندوسية، يرتبط التركيز الذهني بالتأمل والدعاء، بوصفه وسيلة لضبط التفكير وتهدئة النفس.
المدرسة أيضًا لها دور مهم في تعزيز هذا الجانب، فهي ليست مكانًا للحفظ والدراسة فقط، بل هي بيت تربوي يمكنه أن يهيئ الطلاب نفسيًا وروحيًا، إن تخصيص وقت قصير لتلاوة القرآن الكريم، أو ترديد أدعية بسيطة قبل الدروس، يُشعر الطالب بالسكينة ويُذكّره بأن النجاح لا يأتي بالقلق، بل بالجهد المصحوب بالتوكل على الله، كما أن دور المعلمين يتجلى في التخفيف عن الطلاب، لا بمزيد من الضغط، بل بتوجيههم نحو قيمة الإخلاص في العمل وترك النتيجة لله، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».
إن الأبناء الذين يتربون في جو أسري يتشارك فيه الجميع الدعاء والدعم المعنوي يعيشون أجواء أقل توترًا وأكثر اطمئنانًا، فحين يجلس الأب مع أبنائه يُذكرهم بقصص العلماء وكيف كانوا يبدون يومهم بالدعاء والعمل، وكيف أن الله يُبارك في جهد المخلصين، فإن ذلك يرسخ في نفوسهم يقينًا بأن كل تعب له أجر، وأن الفشل ليس نهاية الطريق، فها هو عبدالله بن عباس رضي الله عنه يذكرنا بقوله: العلم يُنال بالتواضع والاستعانة بالله.
التربية الإيمانية ليست مجرد دروس تُلقى وقت الامتحانات، بل هي مواقف عملية يتعلمها الأبناء من أسرهم، يبدأ ذلك بالدعاء عند المذاكرة، وقراءة الأذكار الصباحية، والاستغفار طلبًا للتوفيق، ثم تذكيرهم بأن النتيجة ليست سوى محطة، وأن التفوق الحقيقي هو تفوق القلب بالرضا عن الله.
في النهاية، سيعود أبناؤنا من قاعات الامتحان، بعضهم مبتسم لنجاحه، وبعضهم قلق لنتيجته، لكن الأسرة التي تربت على اليقين تعلم أن كل جهد وُضع إنما كان لله، وأن القلق لا يمحو النتائج، لكن الإيمان يمحو الخوف، يقول الله تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 3)، وهذه الآية ليست مجرد كلمات، بل هي دستور حياة يُعلّمنا جميعًا أن الثقة بالله هي أساس كل نجاح.
إن التربية الإيمانية حين تترسخ في البيت والمدرسة، تبني في الأبناء قلوبًا قوية تعيش بأمان، وعقولًا راشدة تعرف أن النجاح الحقيقي يبدأ من التوكل على الله، ثم ينطلق بالجد والاجتهاد.