لا أدري لماذا تذكرت عندما بدأت رحلتي الأولى إلى الأردن في أواخر الشتاء وأوائل الربيع الماضي، قصيدة القدس التي تغنيها فيروز:
لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي
لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن
يا قدس يا قدس يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي
عيوننا إليك ترحل كل يوم ترحل كل يوم
حين هوت مدينة القدس
تراجع الحب وفي قلوب الدنيا استوطنت الحرب
الغضب الساطع آتٍ الغضب الساطع آتٍ الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان
سأدق على الأبواب وسأفتحها الأبواب
وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية
وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجيةالأردن ترتبط بالقدس وفلسطين ودمشق والجولان وجبل الشيخ والأغوار واليرموك وحطين وعين جالوت والتاريخ البعيد والقريب، وموطن الجهاد والفتوح وتحرير الشام والقدس من الصليبيين والتتار والفرنسيين والإنجليز وشذاذ الآفاق.
لم أكن أتصور أنني سأدخل الأردن أو أزورها.. لماذا؟ لا أعرف.. شعور داخلي بلا أسباب ولا بواعث، لا يخضع لمنطق ولا يقبل المناقشة، هل نستطيع أن نتحكم في المشاعر والعواطف؟ الإجابة بالنفي: كلا!
ومع ذلك، فقد حانت اللحظة التي أحزم فيها حقيبتي وأتوجه إلى المطار لحضور مؤتمر الأديبات الإسلاميات الثاني بالجامعة الإسلامية في عمان وجامعة اليرموك في إربد، كانت رأسي محملة بحكايات التاريخ ودروسه، وصراعات القوى التي تحاورت على أرض الأردن قتالاً وفكراً وصراعاً لم ينتهِ بعد.
بعد منتصف الليل خرجنا بالسيارة من قريتي التي تبعد عن القاهرة نحو مائتي كيلومتر.
كان البرد له لسعات واضحة، ويبدو أنني لم أحترز منه جيداً، وهو ما ظهر بعد الوصول إلى عمَّان، وتمثَّل في نزلة شعبية حادة استغرق علاجها أسابيع، جعلتني أقبع في البيت مهدوداً مكدوداً، لا أستطيع القراءة أو الكتابة.
الطريق وقت السحر
كان الطريق في وقت السحر مفتوحاً بحمد الله، والسيارة تنطلق دون معوقات.. ما كان يخيفنا هو شح الوقود، فقد أوشك بنزين السيارة على النفاد، معظم محطات التموين بالوقود مغلقة أو ليس فيها وقود.. وبعد الوصول إلى الطريق الدائري والاقتراب من الكلية الحربية على مشارف مطار القاهرة الدولي، اكتشفنا محطة مفتوحة وبها البنزين المطلوب 92، ملأنا الخزان وقضينا بعض الحاجات وكنا في صالة المطار قبيل الفجر.. صليت على كرسي، وبقيت خارج مكان الوزن حتى اقتربت الساعة السادسة.. تركت نجلي «محمود» وصديقه «عماد» موصياً ألا يبرحا المطار حتى يتأكدا من دخولي مكان الصعود إلى الطائرة.
حاولت في صالة السفر أن أقرأ كتاباً معي، وأتناول بعض الطعام حتى ينادَى على المسافرين، ولكن الزحام اللافت للنظر، ومجيء أصدقائي وزملاء الرحلة جعلني لا أتابع القراءة.
أخذت طلائع الأديبات المشاركات في التوافد على الصالة.. الشاعرة نوال مهني، ود. مديحة السائح، وانضم إلينا بعض الزملاء، وكان د. سعد أبو الرضا قد التقى بي عند التسجيل والوزن، وتركني لبعض شأنه ثم عاد.
كان جو القاهرة يميل إلى الدفء بحكم الشمس الساطعة، وهو ما أحسسته عند الصعود إلى الطائرة، لم أتنبه إلى طرازها جيداً، ولكنها كانت صغيرة وضيقة وخانقة، وسهّل الأمر أن المسافة بين القاهرة وعمان قصيرة نسبياً، تستغرق نحو ساعة إلا قليلاً، وفي مطار عمَّان الذي هبطت فيه الطائرة كان الجو غائماً، واستقبلنا رذاذ خفيف عندما خرجنا إلى خلاء المطار الفسيح مع برودة طفيفة، ولكنها محتملة وخاصة أن المسافرين يرتدون ملابس ثقيلة فرضها جو القاهرة الشتوي.
بدون تأشيرة
مطار عمان مليء بالطائرات من كل حدب وصوب، عربية وأجنبية.. هل لنظام الدخول في الأردن علاقة بهذا التدفق الخارجي؟ تسمح السلطات بالدخول بدون تأشيرة وهذا يفسر تدفق الجنسيات الآسيوية القادمة من الشرق وخاصة من الصين.. طوابير الجنس الأصفر أمام الجوازات طويلة وينشط الموظفون في إنهاء إجراءات الدخول، ومن يشكون فيه يناقشونه وفي أجهزة الكمبيوتر التي يسجلون عليها كاميرات تصور الأشخاص وتنقلها على الأجهزة!
يبدو أن الذكاء الأردني في إلغاء التأشيرة خدم السياحة الأردنية خدمة كبيرة، المسافر قد يلغي السفر عندما تتعسف القنصليات في منح التأشيرة، هناك قنصليات عربية تجعل الحصول على تأشيرة أصعب من دخول الجنة، بينما تدخل الأردن وتحصل على إذن الدخول وأنت في طابور تسجيل الجوازات فيما لا يزيد عن عشر دقائق؛ بينما سفارات عربية وإسلامية تجعلك ترى نجوم الظهر حيث تنتقل من مقر إقامتك بعيداً عن القاهرة لتصل في الصباح الباكر جداً وتحجز مكاناً متقدماً لتقديم الأوراق، وعندما تصل إلى الشباك قد يقبل منك الطلب أو يرد تحت ذريعة واهية، ويا ويل المصاب بفيروس «سي»، فهذا لا يسمح له أبداً بالدخول!
عمَّان تستقبل الناس، ومعهم الأموال ليقيموا وينفقوا ويتفرجوا على الطبيعة الأردنية والآثار الرومانية والقلاع الإسلامية ومدافن الصحابة ومواقع المعارك والغزوات وغور الأردن، ويشاهدوا العدو على الجانب الآخر يسيطر على الجولان وجبل الشيخ وفلسطين ومساجدها ومزارعها!
أهلاً بالضيوف
على باب المطار كان مندوب المؤتمر ينتظرنا بلافتة مكتوب عليها أهلاً بضيوف ملتقى الأديبات المسلمات الثاني، وضعوا الحقائب في أتوبيس صغير لكنه جديد، انطلقنا نحو الفندق، المسافة بين المطار والفندق حوالي أربعين كيلومتراً قطعناها في نحو ساعة، عبر الطريق تبدو المدينة واسعة رحبة، ممتدة وهادئة، تقوم على التلال الخضراء التي أحيتها الأمطار الشتوية، ويفصل بين التلال وديان تضم بيوتاً ومزارع، وشجرة الزيتون هي الشجرة الأم التي تثبت حضورها في كل مكان.
على سفوح التلال تنمو أشجار خضراء وبعضها يصنع غابات طبيعية، وفي أرجاء الأردن غابات عديدة تحمل أسماء مشاهير منها غابة «ملك البحرين»، وغابة «وصفي التل».
الطرقات واسعة للغاية ونظيفة، العلامات المرورية والإرشادية بارزة، يبدو أنهم مهتمون بالتعريف بكل الأماكن والمعالم عندهم، حتى المناطق التي يتم فيها إصلاح الطريق، يقيمون علامات ضوئية بجانب العلامات الملونة واللوحات المكتوبة والمرسومة، المطبات مصنوعة بعناية ومهارة بحيث لا تؤذي السيارات ولا الركاب، وواضح أن هيئة المرور من وراء إعدادها، تبدو المطبات عريضة للغاية ربما يمتد الواحد منها لمسافة مترين أو أكثر، وهي بصفة عامة متدرجة العلو والانخفاض في نعومة واضحة، والطريف أن بها مساحة من البلاط الصغير الملون الذي يتفاعل مع أضواء السيارة بالليل ويلاحظه السائق في النهار من مكان بعيد.
لا مجال للمقارنة مع المطبات عندنا في مصر التي تبدو نوعاً من تعذيب الركاب وتدمير السيارات، وتعبيراً عن عدم الاكتراث بالطبيعة والبيئة والإنسان.
لاحظت أنهم يستفيدون من الطرق السريعة في مجال الإعلان، فترتفع لوحات إعلانية ضخمة وفقاً لأحدث وسائل الدعاية الضوئية أو النيون أو غيرها، وكثير منها ينبئ عن اهتمام المجتمع بالتعليم الأساسي والتعليم العالي، فهناك جامعات رسمية وأخرى أهلية، مثل: البترا، وآل البيت، والعلوم الإسلامية، واليرموك، وغيرها، عرفت فيما بعد أن هناك عشر جامعات رسمية مثلها جامعات خاصة.
الطوب الأبيض
شوارع عمَّان فسيحة وهادئة خاصة في الأحياء الجديدة المنشأة حديثاً، المباني غير مرتفعة بصفة عامة، وتكاد تكون منتظمة على هيئة فيلات، وأغلبها مبني بالطوب الأبيض الذي يشكل لمسة جمالية في المبنى الذي تحيطه شبه حديقة صغيرة عادة.. الطوب الأبيض عندنا صار رمزاً للقبح واغتيال الأرض الزراعية والاعتداء على الأملاك العامة والبناء على شواطئ النهر الخالد وحواف الترع والطرقات العامة.
وصلنا الفندق الذي يقع في شارع متفرع من شارع رئيس يحمل اسم رئيس وزراء الأردن الأسبق «وصفي التل»، وهو رجل شغل السياسة العربية في الستينيات، شكل الحكومة الأردنية في 28 يناير 1962م واستقال بتاريخ 2 ديسمبر 1962م، ثم شكل الحكومة مرة أخرى في 1965م ومرة ثالثة من 28 أكتوبر 1970م حتى 28 نوفمبر 1971م، وهو العام الذي تم فيه اغتياله بالقاهرة على أيدي أعضاء من منظمة «أيلول الأسود» – كما قيل يومها – أمام مقر جامعة الدول العربية، بسبب سياسته المعارضة للمقاومة الفلسطينية التي كانت قد أخذت شكلاً ملموساً على الأرض، ولكني فيما أذكر لم أسمع عن القبض على قاتليه أو محاكمتهم، والرجل ينتمي إلى عائلة كبيرة في الأردن ومنهم شخصيات شهيرة من بينها والد وصفي التل نفسه وهو الشاعر الكبير مصطفى وهبي التل، والمجاهد الكبير عبدالله التل الذي ذاعت كتبه عن فلسطين وما جرى لها من خيانات عربية وغدر صهيوني.