لوحظ منذ بعض الوقت تلهف محموم من قبل النظام الإيراني نحو سريلانكا، استكمالاً لمحاولاته الحثيثة للتغلغل في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية؛ الأمر الذي يؤكد أن طهران لا تسعى فقط إلى مد نفوذها في المنطقة العربية وبلدان الشرق الأوسط فحسب من خلال
لوحظ منذ بعض الوقت تلهف محموم من قبل النظام الإيراني نحو سريلانكا، استكمالاً لمحاولاته الحثيثة للتغلغل في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية؛ الأمر الذي يؤكد أن طهران لا تسعى فقط إلى مد نفوذها في المنطقة العربية وبلدان الشرق الأوسط فحسب من خلال أنصارها وعملائها، وإنما تسعى أيضاً إلى الهيمنة على امتدادات مياه الخليج في بحر العرب والمحيط الهندي، وصولاً إلى البحرين الأحمر والأبيض، وبالتالي التحكم في الممرات البحرية التجارية ما بين الشرق والغرب.
ولتحقيق هدف التغلغل في سريلانكا، استخدمت طهران وسائل مختلفة، فقد استغلت مثلاً فقر هذه الدولة وحاجتها إلى الطاقة والمساعدات الإنمائية، فقدمت أثناء زيارة رئيسها السابق “أحمدي نجاد” إلى كولومبو في عام 2008م قروضاً بمبلغ 1.5 مليار دولار، إضافة إلى كميات مجانية من النفط والغاز لتوليد الكهرباء، وعروض لتطوير معامل تكرير النفط بقيمة 450 مليون دولار، وذلك كي تكسب مودة السكان وتأييدهم سياساتها ومواقفها، وفي هذه الجزئية استخدمت الشيعة السريلانكيين ضمن الأقلية المسلمة، فقامت ببناء الحسينيات، والمدارس بمراحلها المختلفة، مع تزويدها بما يلزم من أموال ومدرسين ودعاة وكتب ووجبات يومية ومنح دراسية إلى علماء المسلمين بصفة عامة لإكمال دراساتهم العليا في الحوزات الدينية في قم، وبلغ عدد الدعاة السريلانكيين الذين أكملوا تعليمهم الديني العالي في قُم حتى الآن نحو 40 داعية، وجميعهم غُسلت أدمغتهم بفكرة “إن قوى الاستكبار العالمية هي التي تفرق بين الشيعة والسُّنة، بينما تسعى إيران لإزالة الطواغيت وإقامة الدولة الإسلامية وجمع كلمة السُّنة والشيعة، وإن الدستور الإيراني يحترم المذاهب السُّنية الأربعة ويمنح لكل مذهب حرية تامة، وإن القانون يعاقب من يشتم أمهات المؤمنين وأصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) أو يقذفهم بالبهتان”.
وهذا الكلام قاله حرفياً مسؤول إيراني رفيع أثناء لقائه بوفد من كبار علماء المسلمين في سريلانكا كان قد سافر برئاسة الشيخ محمد رضوي، رئيس جمعية علماء سريلانكا في أبريل 2012م إلى طهران بترتيب من السفير الإيراني في كولومبو، غير أن الإيرانيين تلقوا صفعة لم يتوقعوها؛ إذ امتلك الشيخ رضوي الجرأة ليرد على كلمة مضيفه ويقول: “إن المسلمين في سريلانكا هم من أهل السُّنة منذ أنْ دخل الإسلام إلى سريلانكا، وأما المذهب المتبع من غالبية المسلمين فمذهب شافعي، وتصدر المحكمة الحكم القضائي وتحل القضايا بين المسلمين وفقاً لهذا المذهب، ولن نقبل تسرب أي فكر يعادي أهل السُّنة والمذهب الشافعي إلى بلادنا، ولكن مع الأسف الشديد والحق أحق أن يقال: إنّ الذين تلقوا دراستهم من سريلانكا في جامعة قم ينشرون عقيدة الشيعة وفكرهم ويشتمون أمهات المؤمنين والصحابة الكرام وفي حوزتنا أدلة على ذلك”.
ثم أضاف قائلاً: “إن أهل السُّنة يحترمون أهل البيت ويحبونهم كسائر الصحابة (رضي الله عنهم)، ولم يخترق أحد منا كراماتهم ولن نرضى أن يدنس أحد من متخرجي جامعة قم كرامات أمهات المؤمنين والصحابة، وإنْ أردتم أن تقدموا أي مساعدة إنسانية فإن جمعيتنا ترحب بها ولا ترفضها، وأما ما يمس عقيدة أهل السُّنة فهذا أمر لا نحبه، سامحونا إنْ أساءكم كلامي، وإنما أردتُ فقط أن أعرض عليكم ما يواجهه مسلمو بلادنا من أتباعكم”.
والمعروف أن للشيعة وجوداً قديماً في سريلانكا يعود إلى حقبة الدولة العباسية، ويقال: إنهم تسربوا من الهند، وتركزوا في بداية الأمر في المنطقة المعروفة اليوم بالعاصمة “كولومبو”، قبل أن ينتشروا في مناطق ومدن أخرى ويبنوا فيها الحسينيات.
ويوجد اليوم في سريلانكا خمسة مراكز ثقافية كبرى تابعة لشيعة سريلانكا تدعمها طهران بكل احتياجاتها؛ من أجل نشر التشيع، وبذر بذور الكراهية ضد المذهب الشافعي، إضافة إلى المئات من المدارس والمراكز الأصغر حجماً، وهذه المراكز الخمسة الكبرى هي: مؤسسة الهاشمية في كولومبو، مركز الإمام جعفر الصادق في كولومبو، حسينية الثقلين في كاندي، مدرسة منبع الهدى في أودوماودي، ومركز الثقافة الإسلامية في أودوماودي، ولا تبدو مهمة هذه المراكز والمؤسسات عسيرة في ظل الجهل والفقر اللذين يعاني منهما مسلمو سريلانكا بصفة عامة.
ومن الوسائل والأساليب الأخرى التي تستخدمها إيران للوصول إلى أغراضها الخبيثة العلاقات التجارية، حيث أبرمت عدة اتفاقات تجارية وزراعية وصناعية مع هذا البلد، وحثت التجار الإيرانيين على التعاون مع نظرائهم السريلانكيين ولاسيما في مجال استيراد الشاي الذي يُعتبر المشروب اليومي المفضل للملايين من الإيرانيين، كما حثت الأسر الإيرانية على استقدام خادمات المنازل من سريلانكا، وهؤلاء يتم تشييعهن في المنازل الإيرانية، وحينما يعدن إلى بلادهن يشيعن مواطناتهن.
وفي موضوع التشيع تحديداً تقوم السلطات الإيرانية أيضاً بتشجيع وتنظيم رحلات سياحية رخيصة التكلفة لمواطنيها إلى المدن السريلانكية بواسطة “طيران رشت” الإيراني، وهؤلاء يسافرون بطبيعة الحال إلى سريلانكا كسياح، لكنهم في الوقت نفسه يقومون بمهام أخرى مثل التجسس ونشر التشيع والأفكار الخمينية ضد ما يصفه النظام الإيراني بتغلغل الوهابية في صفوف مسلمي سريلانكا، على الرغم من علمه بأن جل مسلمي سريلانكا هم من الشوافع وليس من الحنابلة.
إلى ما سبق، يقوم النظام الإيراني بتوطيد نفوذه في سريلانكا من خلال الاتفاقيات العسكرية التي تقوم طهران بموجبها بتزويد الجيش السريلانكي بالأسلحة والتدريب ومنح الدراسة بالمجان في الكليات العسكرية الإيرانية، وهذا يشكل أمراً حيوياً للإيرانيين؛ لأنه يمنحهم الفرصة لتشييع من يتم ابتعاثهم وغسل أدمغتهم بأفكار ما يسمى بـ”الثورة الإسلامية” ونظرية “ولاية الفقيه”، وفي سياق العلاقات العسكرية يتم تنظيم زيارات لسفن البحرية الإيرانية للموانئ السريلانكية تحت مسمى التنسيق من أجل مكافحة القرصنة البحرية، إضافة إلى تزويد البحرية السريلانكية بالزوارق السريعة المشابهة لما يستخدمه الحرس الثوري الإيراني في المناورة والتحرش والتهديد والتهريب في مياه الخليج، ولا ننسى هنا أن الإيرانيين كثيراً ما ضخموا الأخطار المحدقة بسريلانكا من القوى التي يسمونها بقوى الاستكبار، وذلك كي يُرّغبوا السريلانكيين في الدخول معهم في معاهدات عسكرية.
وفي ظل إهمال دول المنظومة الخليجية لسريلانكا، والاكتفاء بالنظر إليها كمصدر للخدم والعمالة الرخيصة فحسب، انتهزت طهران فرصة انتهاء الحرب الأهلية في سريلانكا، وحاجة هذه البلاد لمشاريع إعادة التعمير، فراحت تقدم نفسها كنموذج ذي خبرة يمكن الاعتماد عليه على الصعيد الفني والهندسي والاستثماري لجهة إقامة مختلف مشاريع البنى التحتية في سريلانكا، فما كان من وزير الصناعة والتجارة السريلانكي “ريشاد باتيودين” إلا أن رحب بالعرض الإيراني وقام من أجل ذلك بزيارة رسمية إلى طهران في مارس الماضي.
والحال أن دول المنظومة الخليجية مدعوة للاهتمام أكثر بعلاقاتها الثنائية والجماعية مع سريلانكا، وعدم تركها لقمة سائغة للإيرانيين، فسريلانكا رغم صغرها وقلة مواردها مقارنة بباكستان والهند إلا أنها تتمتع بموقع إستراتيجي مهم في المحيط الهندي، وتشرف على خطوط إمدادات النفط من الخليج إلى الشرق الأقصى.