الوقفة الصامدة للشعب الأعزل هي عنوان كل الأزمنة، رغم نزيف الدماء، والتواطؤ العالمي، والعجز الإسلامي، والتضارب العربي.
أصبحت كلمة “انتفاضة” مشبعة بالمعاني الرمزية الباهرة، وفتحت باباً للمقاومة يصعب على العدو سده.
أثبتت الأحداث أن الصبيان العزّل؛ الذين حاول الإعلام تجهيلهم ومحو القدس وفلسطين من ذاكرتهم قادرين على أن يصنعوا شيئاً لم تفعله الأنظمة، وهذه تعرية لفقد الإرادة، فمع الإرادة الصادقة يكتشف المرء فرصاً كبيرةً للعمل والإبداع.
هذا العمل يهز موازين القوى، ويُقدّم حلولاً جذريةً، ويفتح آفاقاً جديدة أمام الأجيال الجديدة.
إذا كان الشاب الفلسطيني لا يخاف من الموت، ولا يرهب الآلة الأمنية والعسكرية الصهيونية فهو جدير بأن “يُخاف منه”!
حين احتللتم أرضه، وشتّتم أهله، وحاصرتم أسرته.. فقد وضعتموه أمام مستقبل مجهول، ولم تبقوا في يده شيئاً يخاف عليه.
حين صوّتم للرموز الإرهابية والمتطرفة فأنتم تلقنون هؤلاء الصغار عمراً الكبار همماً أن محادثات السلام وأدبياتها ما هي إلا سراب في سراب، وتزجية للوقت لابتلاع المزيد من الأرض، وترسيخ أقدامكم عليها، وتمكين مستوطنيكم منها!
عقول غضة لم تبال أن يكون بعض محيطها العربي متواطئاً، ولا أن يكون العالم انتقائياً يدين طفلاً يدافع عن نفسه بالسكين، ولا يدين نظاماً عنصرياً يقتل الأبرياء بالنيران والقصف والسلاح الحديث!
الفلسطيني يتلفّت للوراء في حالة واحدة.
يتلفّت ليرى قرب إخوانه العرب والمسلمين من موقعه وحمايتهم لظهره.
يتلفّت ليقتبس من محيطه التاريخي العظيم جذوة الصبر والثبات وديمومة الإصرار على الطريق الطويل.
يتلفّت ليودع إخوانه وأهله ويقول:
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف
وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطُرفِ!
يتلفّت ليبعث بوصية الرحيل وحاله يقول:
ها أنا أمنح روحي الغالية ماضياً نحو رمامٍ بالية
فاحفظوا بعدي أرضاً سقيت بالدما عبر العصور الخالية
هل نستطيع أن نعلن نحن انتفاضةً مماثلةً على أنانياتنا وحظوظنا الشخصية، ومصالحنا الذاتية، فلا ندخل في حسابات استثمار خاصة لهذا الحدث أو ذاك، ولا نقبل أن يوظّف بخدمة فردٍ، أو حزبٍ، أو طائفةٍ، أو جهة، ولا أن يكون فرصةً لتحقيق مكاسب من هذا القبيل؟
إن الأمة في حالة صراع دائم مع الصهاينة، ويجب أن تكون في صراعٍ دائمٍ مع سلبياتها.
فلنجعل ديمومة المقاومة هدفاً أعلى تذوب في طيّاته وتضاعيفه كل الأهداف الصغيرة وكل الخلافات الصغيرة.
إن الأمة مجموعة أفراد تزيد على المليار يتشكّلون في تجمعات عديدة، مختلفة الشّيات والألوان والملامح، حزبية، ومذهبية، وجغرافية.
فلنجعل المصلحة العليا للأمة هي شعارنا الصادق، ولو ترتب على ذلك فوات بعض مصالحنا الشخصية، أو الحزبية، أو الوطنية، أو السلطوية.
يبدو أحياناً أننا مستعدون للقتال على الغنائم حتى قبل الظفر بها، وبمجرد ما نجد صدى إعلامياً، أو تعاطفاً شعبياً، ندخل في دائرة جديدة: من سيستفيد من هذا التجاوب؟ هذا الفصيل؟ أم تلك المجموعة؟ أم ذاك الحزب؟
ثم ندخل في دوامة أخطر من السعي إلى تفويت المصالح على الآخرين؛ لأنها – فيما يبدو لنا – ستكون على حسابنا، أو لأننا نعتقد أنهم استغلوا الحدث بطريقة ما.
إن من مصلحة العرب اليوم والشعب الفلسطيني خاصة أن يتسامى فوق الاعتبارات الجزئية، والمصالح الآنية، ولا يسمح لأي مؤثر أن يصرف السهام عن صدور العدو المشترك إلى صدور الجيرة والمساكين.
هل يمكن استثمار التحدي الصهيوني المدعوم لتحقيق نوع من التقارب الإسلامي في إسناد المقاومين ولو سياسياً؟
إن الوحدة بين المسلمين أو العرب حلم بعيد المنال، فالتناقضات أعمق من أن يمكن ردمها، أو القضاء عليها.
لكن هذا لا يعني فقدان الأمل.
إن مساحات الاتفاق بين العديد من شرائح الأمة واسعة، سعة هذا الدين الذي جمع بعد الفرقة، ووحّد بعد الشتات، وأغنى بعد العيلة، وأعلنها في الكتاب الكريم (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92).
ثم أبلغ نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم فصاح بالناس: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»، «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».
وانطلاقاً من مساحات الاتفاق يمكن الخروج بمواقف موحدة في بعض الأزمات، وتضافر وتناصر ولو في بعض الميادين.
كما يمكن الاتفاق على مشاريع جزئية، أو برامج محددة، إنْ في الإعلام، أو في الاقتصاد، أو في التنمية، أو في التعليم، أو في الدعوة، أو سواها.
يكفي أن نتفق على هذه البرامج، أو نتوحّد حول هذا المشروع، ثم ليكن لكل منا طريقه الخاص.
ثم هناك ترتيب العداوات، فيما يتعلق بالخصوم الحقيقيين؛ فهناك عدو، وهناك أشد عداوة، وإذا أمكن مواجهة الجميع، فحبذا وقرة عين، لكن حين يكون الجهد محدوداً، وحين يكون القتال على أكثر من جهة غير ممكن، فمن حكمة الشرع حينئذ أن وفر الجهد للعدو الأكبر، وهذا لا يمنع من مدافعة الآخر وفق رؤية متكاملة مدروسة.
أجِّلوا – رحمكم الله – عداوة إخوانكم، وعداوة بعضكم لبعض، وأعلنوها لله أنكم ضد العدوان الصهيوني جملة بدون “لكن”.
أعلنوا أنكم مع الحق العربي والإسلامي ولو تنكّر له العالم كله بدون “لكن”.
أعلنوا أنكم تدينون الإرهاب الصهيوني بدون “لكن”؛ كما تدينون أيّ لون آخر من الإرهاب.
قولوها صريحة بدءاً وانتهاءً، ولا تقولوها تمهيداً للانتقال إلى نقيضها، وكأنها مقدمة لا تعبر عن الرأي المستبطن.
إن الانتفاضة المباركة في الأرض المباركة نيابة عن الأمة كلها في مدافعة المغتصب، وفضح ألاعيبه، وكشف أساليبه، وتعرية وحشيته وغطرسته أمام العالم، ويجب أن نتناولها بحس إعلامي ذكي، ونفوت على الأعداء توظيف الصورة لصالحه.. فصورة محمد الدرة التاريخية نموذج لا يُنسى، والعدو يحاول طمسها بترويج صور عكسية لأكذوبته.
الطفولة مرتبطة بالبراءة في حس العالم كله، وصورة الطفل حين يدافع عن نفسه أو يرد عدوان ظالم أو يموت بجريمة مستوطن أو مقاتل صهيوني؛ تظل معبرة ومحرجةً لضمير العالم، إن كان بقي في العالم ضمير!
وقد كانت صيحات المسلمين على منابرهم خلال هذا التصعيد الأخير هي صيحات التنادي للجهاد بشموليته وسعة مفهومه.
فلنصدق الوقفة مع إخواننا في الضراء، ولنشاركهم مرارة عيشهم، ولنقتسم معهم لقمة الخبز، وليكن لهم من قلوبنا، وعقولنا، ومجالس درسنا وحديثنا، وإعلامنا، وصلاتنا، وتواصينا ما يشد على أعضادهم، ويواسي جراحهم لنكن “مطريين” هذه المرة:
بَنُو مَطَرٍ عندَ اللِّقاءِ كَأنَّهُمْ أُسُودٌ لها في أَرْضِ خَفَّانَ أَشْبُلُ
هُمُ يَمْنَعُونَ الجارَ حتَّى كَأَنَّما لِجارِهِمُ بَيْنَ السِّماكَيْنِ مَنْزِلُ
لهاميمُ في الإِسْلام سادُوا ولَمْ يَكُنْ كأَوَّلِهِمْ في الجاهِلِيَّةِ أَوَّلُ
هُمُ القَوْمُ إِنْ قالُوا أَصابُوا، وإِنْ دُعُوا أَجابُوا، وإِنْ أَعْطَوْا أطابُوا وأَجْزَلُوا
فما يستطيعُ الفاعلون فعالهُمْ وإنْ أحسنوا في النّائباتِ وأجْمَلوا