كنت قد عزمت ألا أتناول اختيار حلمي النمنم وزيراً للثقافة لأكثر من سبب، في مقدمتها أن الوزارة أُنشئت أساساً للسيطرة على مخ الشعب المصري، وترويضه لصالح الحكم العسكري الدكتاتوري الذي يقوده البكباشي الأرعن، وليس لترقيته وتهذيبه والنهوض به، كان اسم الوزارة في البداية “الثقافة والإرشاد القومي”، لفظة “الإرشاد” تشير إلى التوجيه والبرمجة، سواء من جانب أجهزة الإعلام أو الدعاية بمعني أدق، أو أجهزة الثقافة بهيئاتها المختلفة؛ لذا فالحديث عن الوزارة لم يعد مجدياً؛ لأنها ذراع من أذرع التخلف المعادية للحرية والديمقراطية، فضلاً عن الإسلام وقيمه الرفيعة.
عندما أُسندت الوزارة إلى اليوزباشي ثروت عكاشة بدأ عهد الحظيرة الحقيقي، وأخذ في تجنيد المثقفين وخاصة من اليساريين والشيوعيين بالذات، ليكونوا لسان النظام العسكري الدكتاتوري، وتجميل صوته القبيح، وتشويه صورة الإسلام والمسلمين عن طريق التغريب والتسطيح؛ مقابل الاغتراف من خزانة الوزارة ما يشبعهم من جوع ويؤمنهم من خوف.
طلب خروشوف في الستينيات ومن بعده سارتر الإفراج عن الشيوعيين المعتقلين شرطاً لإتمام الزيارة لمصر، وبعد الإفراج تم تمكينهم من الصحافة والإذاعة والتلفزيون والسينما والتعليم وهيئات الثقافة المختلفة، لم يكن من الضروري أن يكون الشيوعي المفرج عنه حاملاً لمؤهل عالٍ متخصص، فقد خرج أصحاب المهن المتواضعة من الشيوعيين ليتسلموا صفحات وأعمدة وموجات وشاشات في الصحف والإذاعة والتلفزيون يعبرون من خلالها عن ماركس، وأنجلز، ولينين، وستالين، وتروتسكي وغيرهم من فلاسفة الشيوعية، وليحدثوا الناس عن الاشتراكية العلمية، والدين الذي هو أفيون الشعوب.
وكان من هؤلاء كمساري الأتوبيس ومقاول الأنفار وتاجر الفاكهة والشماس والبائع السريح وموظف الشرطة وعامل المطبعة وصانع الأحذية والعاطل الذي بلا مهنة، ومع احترامنا لأشخاصهم ومهنهم وبطالتهم، فلم يكن من المعقول أن يجاوروا العقاد، وطه حسين، والرافعي، والزيات، والبشري، والمازني وغيرهم.. ولكن هذا ما حدث في مصر المحروسة تحت الحكم العسكري.
صارت وزارة الثقافة ملكية خاصة لمثقفي الحظيرة الشيوعيين وأشباههم؛ ولذا كانوا شديدي الحرص على هذه الملكية والدفاع عنها بكل الوسائل غير المشروعة، ولم يكن من الممكن أن تخرج من تحت سيطرتهم، فإذا خرجت أو تصوروا أنها خرجت من أيديهم إلى وزير نظيف اليد أو غير مكسور العين أو غير خبيث التربية؛ تنادوا إلى النزال، وصاحوا في كل مكان، وتظاهروا على صفحات الصحف وشاشات التلفزة وموجات الأثير، وحملوا حملات ضارية على الوزير الغريب من خلال أقلامهم وأبواقهم وصبيانهم في الإعلام والصحافة، حتى يتم إقصاؤه أو تغييره.
فعلوا ذلك مع سليمان حزين، ويوسف السباعي، ومحمد عبدالحميد رضوان، وأحمد هيكل بصورة محدودة، ومع الوزير الشجاع علاء عبدالعزيز الذي تولى في عهد الرئيس المنتخب محمد مرسي – فك الله أسره – والوزير الانقلابي القادم من الأزهر الشريف عبدالواحد النبوي بصورة هستيرية؛ الأول كان يريد اقتلاع الفساد في الوزارة من جذوره وفي مقدمته عملية النهب القانوني للوزارة بوساطة اللصوص المحترفين الذين يتقنون السرقة بالقانون على هيئة مناصب شكلية وجوائز لا يستحقونها ومحاضرات لا قيمة لها، وكتب غير مفهومة أو بذيئة لا تضيف جديداً، وندوات ومهارج استعراضية، وتفرّغُ لا يثمر شيئاً، وصحف ومجلات لا توزع، وأنشطة ورقية ورحلات ترفيهية وغيرها لا تصبّ في ترقية العقل ولا تضيء الذهن ولا تثري الوجدان.
لقد ساعدهم الانقلاب العسكري الدموي الفاشي على التخلص من هذا الوزير ومن غيره من أصحاب الأيدي المتوضئة، أما الوزير الانقلابي فقد شموا فيه رائحة أن يكون مسلماً لا يتوافق مع الشيوعية وأشباهها، ثم إنه قام بعدة خطوات هدف من ورائها إلى قطع الطريق على الرؤوس المنافسة المزمنة التي تتعامل معه باستعلاء وعجرفة، وتظن نفسها فوقه اعتماداً على تماهيها مع بعض الأجهزة النافذة، وكان أن شنوا عليه حملة تترية جعلت صورته مهزوزة أمام قادة الانقلاب، فتمت إزاحته في التغيير الوزاري!
في الوقت نفسه، كانوا يروجون لمجموعة من الأشخاص الشيوعيين وأشباههم كي يخلفوه، مما يتيح لهم مواصلة النهب القانوني لأموال المسلمين، وكان من بينهم الوزير الدموي حلمي النمنم الذي تم اختياره، فباركوا هذا الاختيار وأشادوا به ورضوا عنه، ووضعوه في عين الشمس!
وحلمي النمنم صحفي تخرج في كلية الآداب، ويبدو أنه تشبع بآراء الشيوعي محمد أنيس الذي كان من أبرز أنصار الانقلاب العسكري في عام 1952م، وأخيه عبدالعظيم أنيس الذي كان من أبرز القيادات الشيوعية في مصر، عانى النمنم بعد تخرجه من البطالة، فتوسط له المفكر الإسلامي المعروف د. محمد عمارة لتعيينه في “دار الهلال”، كما يقول الأستاذ علي القماش، ولكنه رد الجميل بالهجوم على د. عمارة والإسلام؛ عندما بدأ ينشر بعض الموضوعات في مجلة “حواء”! وهذا دأب الشيوعيين المصريين في رد الجميل؛ جحود ونكران للمعروف، وسبق أن فعلوا ذلك مع يوسف السباعي الذي عيّنهم في وظائف بعضها صوري ليوفر لهم لقمة العيش وحلَّ كثيراً من مشكلاتهم الاجتماعية وساعدهم في مناسبات مختلفة، وكان جزاؤه عندهم الهجوم المستمر لأنه لم يكن شيوعياً!
النمنم شخصية مسطحة الوعي والثقافة، لا يمتلك إلا ترديد مقولات الشيوعيين المعتادة، ولا يمتلك أدوات الباحث النزيه الذي يتجرد من انتماءاته أو عواطفه عند البحث، وقد رأى أن تناول الإخوان المسلمين ورموزهم والهجوم عليهم في كتب ينشرها رفاقه المسيطرون على دور النشر الرسمية والخاصة عملية مربحة للغاية، وتقربه من الأجهزة المهيمنة، فصنع تاريخاً على هواه يشوّه حسن البنا، وسيد قطب، وقضايا المسلمين؛ مما جعل الجهات الأمنية ترضى عنه وتضمه إلى الحظيرة، وتعينه في مناصب عديدة، وصل بعدها إلى منصب الوزير في عهد الانقلاب والدكتاتورية العسكرية، ليعيش مقولاته الموالية للاستبداد، مثل قوله: “خلونا نتكلم بصراحة: مفيش ديمقراطية ومجتمع انتقل إلى الأمام “بدون دم” لازم يكون في دم, وفي دم نزل وفي دم لسه هينزل كمان, ولابد إننا نكون عارفين إن في فاتورة هتتدفع, وفي دماء لازم تسيل!”.
يصعب أن تتوقع خيراً من شخص يحارب الإسلام بضراوة، ويشيد بالكنيسة المتمردة، ويزعم أن مصر علمانية، ويدافع عن الاستبداد، ويتجاهل أن هناك شيئاً اسمه حرية الفكر وحق التعبير، فهو لا يؤمن بغير الدم ولا يعترف بالإسلام!
الله مولانا، اللهم فرّج كرْب المظلومين، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!