– الإسرائيليات كما نعتقد ليست كل المعتقدات اليهودية ولكنها تلك المعتقدات والأفكار المحرفة في التوراة ورواياتها
– كعب الأحبار من عرب اليمن ولا توجد أسباب واضحة عن تأخر إسلامه خصوصاً أن عرب اليمن دخلوا الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
– ذهب ولفنسون إلى أن كعب الأحبار أعظم من اعتنق الإسلام شأناً في القرن الأول للهجرة ويقارنه بشخصيات مثل عبدالله بن سلام
– كعب الأحبار -عند إسرائيل ولفنسون- كان متشبعاً بالعقلية اليهودية ويهودياً من المهد إلى اللحد وكان ينظر إلى الإسلام بالعين اليهودية
– رواة قصص الأنبياء بذلوا مجهوداً عظيماً في جمع ما وصل إليهم من الأخبار عن طريق اليهود والنصارى وزادوا عليها ما اخترعتها مخيلتهم الخصبة
إن مسألة دخول الإسرائيليات في الفكر الإسلامي بدءاً من الحديث الشريف إلى تفاسير القرآن الكريم والتاريخ والفقه، مسألة واقعة لا شك حولها، وقد اختلفت الدوافع حولها مما هو عن قصد ومما هو مسألة طبيعية نتيجة تداخل الفكر اليهودي الضارب في القدم مع الفكر الإسلامي، واشتراكهما في كثير من الأفكار والمبادئ، وهو ما لم يمنع حدوث الصدام لاحقاً بينهما.
والإسرائيليات – كما نعتقد – ليست كل المعتقدات اليهودية، ولكنها تلك المعتقدات والأفكار المحرفة في التوراة ورواياتها، وما جاء في التلمود من معتقدات ثم وجدت لها مكاناً داخل الفكر الإسلامي.
وهذه دراسة متواضعة في دخول الإسرائيليات للفكر الإسلامي كما عرضها إسرائيل ولفنسون في كتابه “كعب الأحبار.. مسلمة اليهود في الإسلام”، أو كما جاء بعنوان آخر “كعب الأحبار وأثره في كتب الحديث والقصص الإسلامية”، وهو في الأصل رسالته للدكتوراه الثانية عام 1933م من جامعة فولفانج جوتة بألمانيا.
جذور كعب الأحبار
يعد كعب الأحبار بن ماتع المكنى أبا إسحاق من أشهر يهود اليمن الذين دخلوا الإسلام في عهد الخلافة الراشدة عام 17هـ على الأغلب، نظراً لمكانته الدينية بين يهود اليمن؛ وعليه فهو ليس من يهود المدينة الذين تضاربت الأخبار حول جذورهم.
واليهودية قديمة في اليمن، ويرجعها بعض الباحثين إلى عصر سليمان – عليه السلام – وبلقيس ملكة سبأ؛ أي حوالي القرن العاشر قبل الميلاد.
وقبل الإسلام كانت قبائل حمير العربية على الديانة اليهودية، وفي صراع مع الفكر المسيحي الوافد من الحبشة، وأهم الحوادث المتعلقة بهذا الشأن قصة أصحاب الأخدود المذكورة في القرآن الكريم، والتي مفادها أن الملك الحميري اليهودي وهو ذو نواس قام بمجزرة لأهل نجران الذين بدلوا ديانتهم إلى المسيحية، وذلك بشق الأخاديد داخل الأرض وإحراقهم بداخلها، وكان ذلك عام 523م، ومن الحوادث الشهيرة الأخرى استنجاد الأمير الحميري سيف بن ذي يزن بالفرس لتخليص اليهود من حكم الأحباش عام 576م.
وعليه فكعب الأحبار من عرب اليمن، ومن قبائل حمير، ولا توجد أسباب واضحة عن تأخر إسلام كعب الأحبار، خصوصاً أن عرب اليمن دخلوا الإسلام على عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعد إرسال الرسول علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري، لليمن للدعوة إلى الإسلام، ويقال: إنه وقف لاحقاً عند سفر أشعيا فوجد فيه صفات الرسول – صلى الله عليه وسلم – حيث جاء: “هو ذا عبدي أعضده، مختاري الذي ابتهجت به نفسي، وضعت روحي عليه ليسوس الأمم بالعدل.. لا يكل ولا تثبط له همة حتى يرسخ العدل في الأرض، وتنتظر الجزائر نعمته” (1-4، 42 أشعيا)، والتي وجدها مصداقاً للآية الكريمة (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {146}) (البقرة).
يهود اليمن ونبوة محمد
وفي هذا الصدد، يورد إسرائيل ولفنسون رأياً غريباً مفاده أن يهود اليمن هم اليهود الوحيدون في العالم الذين يؤمنون بأن النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – رسول من عند الله، ولكنهم يعتبرونه نبياً للجوييم (الناس خارج الديانة اليهودية) وليس لبني إسرائيل، حتى إنهم يسمونه “نبي القبائل”، في إشارة للقبائل اليمنية التي ليست على دينهم، وإذا كان هذا الاعتقاد صحيحاً فذلك يدل على تلاعب اليهود وتحريفهم لما ورد في التوراة للإشارات التي فيها البشارة بالرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – وهي مسألة تكاد تكون محسومة، وأشهر من أكدها عبد الأحد داود في كتابه الشهير “محمد في الكتاب المقدس”، ولم يعلق المؤلف على هذه المسألة ومر عليها مرور الكرام.
وولفنسون يضع كعب الأحبار في صف واحد مع عبدالله بن سبأ، ولكن بصورة أخرى، حيث يقول: إن كعب الأحبار لم ينس يهوديته، ولكنه عمل جاهداً على إثباتها، ويقول في موضع آخر: إن روايات كعب لها صيغة توراتية، وإنها تدل دلالة واضحة على أنه كان راسخ الإيمان بالله، وشديد الإخلاص لعقيدته، كما هو شأن المؤمنين المتفانين في كل أمة ودين؛ أي إنه أدخل الإسرائيليات عن قصد وعمد، ولا يحتمل هذا الكلام معنى آخر، وهو رأي شخصي على ما نعتقده يحتاج إلى تمحيص وتدقيق بشكل كبير، علماً أن كعب الأحبار من الشخصيات التي تضاربت حولها الروايات! وفي الوقت نفسه فهذا الكلام هو اتهام له ما يبرره أكثر منه تبرير للخلفية الدينية والثقافية لكعب الأحبار، والتي لا بد أن يكون لها تأثيرها على فكره الديني الجديد، وقد دخل الإسلام عن عمر كبير، وكان عالماً يهودياً ملماً بآداب التلمود والتوراة، كما يقول العالم بريبي.
حبر الأمة
وأول أثر يشير إليه المؤلف لكعب الأحبار مسألة إعطاء لقب حبر الأمة لعبدالله بن عباس، فهذا اللفظ “حبر” لم يكون معروفاً قبل الإسلام عند العرب، وهو لفظ عبري، وكان اليهود يطلقونه على رجال دينهم الكبار وعلمائهم، وقد نسب اللقب لكعب لكثرة علمه ومناقبه بصيغة الجمع، بالإضافة للقب “رباني” الذي ألصقه المسلمون بعبدالله بن عباس لاحقاً، علماً أن الأخير قد عاصر كعب وهو شاب، وأن كعب حسب بعض الروايات هو الذي أطلق لقب “رباني هذه الأمة” على عبدالله بن عباس.
وفي ثنايا الرسالة يريد الكاتب إثبات نظريته حول كعب الأحبار ولا يدع مجالاً لرأي آخر، فعنده كعب الأحبار أعظم من اعتنق الإسلام شأناً في القرن الأول للهجرة، ويقارنه بشخصيات أخرى مثل عبدالله بن سلام الذي يعده ساذجاً ووديعاً يؤثر الهدوء والسكينة، ذلك أن هذا الإمام ذا الأصول اليهودية لم تثر حوله شبهات إسرائيلية، ووهب بن منبه فهو عنده عالم بالشؤون الدينية فقط، وترك أثراً قوياً في رجال الدين، وأما عبدالله بن سباً فقد كان خطيباً مفوهاً ودساساً خطيراً يحكم تدبير المؤامرات وإشاعة الفتن، وعدواً لدوداً لعثمان رضي الله عنه، وجميعهم لم يستطيعوا الانسلاخ تماماً عن تراثهم الديني القديم.
يهودي من المهد إلى اللحد!
أما كعب عند إسرائيل ولفنسون فقد كان متشبعاً بالعقلية اليهودية، ويهودياً من المهد إلى اللحد، وكان ينظر إلى الإسلام بالعين اليهودية، ولم يكن إسلامه إلا تطوراً طبيعياً لحياته في بلاد العرب، وأهم دليل في رأي الكاتب أن كعباً لم يجد أي تناقض بين دينه الجديد ودين أجداده القديم، ولم يرم اليهود بتهمة تزوير آيات التوراة لأغراض معينة كما فعل عبدالله بن سلام، ويؤكد إسرائيل ولفنسون هذه النظرية بقوله: لم يخفِ كعب يهوديته، وكان في إسلامه يحمل أسفار التوراة والتلمود أمام الجموع الحافلة في المساجد، وفي مجلس الخليفة نفسه؛ فهو لذلك يُعد شيخ علماء عصره الذين وجهوا العلوم الإسلامية إلى الوجهة المعروفة بالإسرائيليات.
ولا تصمد نظرية ولفنسون أمام حقيقة أنه لم تكن هناك توراة ولا تلمود باللغة العربية يمكن أن يفهمها العرب المسلمون آنذاك، وأما الخليفة المقصود فهو على الأغلب إما عمر بن الخطاب، أو عثمان بن عفان، وما كان أحدهما ليسمح بهذا التجاوز مطلقاً.
وتأكيداً لما ذهبنا إليه ونقلاً عن مالك بن أنس، أن تميم الداري صاحب حديث الجساسة المتعلق بالمسيح الدجال وصفاته قال لعمر: دعني أدعُ وأقرأ وأقص وأذكِّر الناس، فقال عمر: فأعاقبك عليه، ثم أردف عمر قائلاً: إنه يريد أن يقول: أنا تميم الداري فاعرفوني، وضربه عثمان على قصصه بالمسجد وهو أمر بالغ الخطورة لم ينتبه إليه معظم رواة الحديث عن تميم الداري.
وفي غمرة التأكيد على دور كعب الأحبار في الإسرائيليات التي دخلت في الإسلام، وبسبب أن استعمال الأسانيد لم يكن مألوفاً في النصف الأول من القرن الأول للهجرة، فإن المؤلف يتهم تلاميذ ابن عباس، وأبي هريرة، بأنهم تجاوزوا كعب الأحبار ونسبوها إلى أساتذتهم، وصولاً إلى ابن جرير الطبري الذي يمتلئ تفسيره وتاريخه بالروايات الإسرائيلية دون الإشارة إلى كعب الأحبار، وربما قد لامس إسرائيل ولفنسون بعض الحقيقة في هذا المجال نتيجة الحساسية من ذكر السند ذي الأصل اليهودي عند رواة الحديث.
ويدعي إسرائيل ولفنسون بأن الذي أدخل معتقد أن الذبيح هو إسحق – عليه السلام – بدل إسماعيل – عليه السلام – هو كعب الأحبار، وذلك استناداً لتفسير الطبري (ج23، ص46)، وهي بلا شك من الإسرائيليات التي دخلت في التفاسير بعد زمن كعب الأحبار الذي توفي عام 34هـ في الشام، فالذبيح هو إسماعيل – عليه السلام – دون أدنى شك؛ لأنه كان بكر والده، وكانت الأقوام آنذاك تضحي ببواكير أولادها ومواشيها، فأراد الله تعالى أن يبطل هذه الممارسة من خلال استبدال إسماعيل – عليه السلام – بذبح عظيم كما هو مفصل ذلك في القرآن الكريم.
تأثيره في قصص الأنبياء
أما الأمر الذي لا يمكن تجاهله؛ فهو تأثير كعب الأحبار على مجمل قصص الأنبياء وحياد الفكر الإسلامي في هذا الشأن عن المنهج القرآني الذي يتسم بالاختصار، وعدم الخوض في التفاصيل التي لا معنى لها والمحشوة بها قصص الأنبياء في روايات العهد القديم والتلمود.
ومع الأسف، فمعظم التفاسير القرآنية وكثير من أحاديث ما يسمى بآخر الزمان هي استنساخ مشوه لروايات العهد والتلمود، حتى إن إسرائيل ولفنسون يذكر بأن الثعالبي صاحب “عرائس المجالس” ينقل عن كعب الأحبار 35 رواية، فقد كان الأخير شيخ الرواة في أدب قصص الأنبياء، وأن معظم ما ذكره الطبري وغيره كالمسعودي والكسائي إنما هو من بنات أفكار كعب حسبما يعتقد، وأنه من الممكن أن تكون بعض الروايات قد نسبت إليه من داخل الوسط الإسلامي لإعطاء الحدث صيغة الإثارة لدى أوساط العامة.
وقد انتشرت آداب القصص التوراتي وما فيها من إثارة رغم أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – نهى عن ذلك, وأن عمر بن عبدالعزيز قد أمر حرسه بتتبع رواة القصص وإخراجهم من المساجد.
ولكن رواة قصص الأنبياء بذلوا مجهوداً عظيماً في جمع ما وصل إليهم من الأخبار عن طريق اليهود والنصارى، وزادوا عليها ما اخترعتها مخيلتهم الخصبة, ثم ألبسوه مسحة إسلامية ترضي المجتمع الإسلامي الناشئ، ويعد كعب الأحبار حسب رأي إسرائيل ولفنسون الأب الروحي لهذا النوع من القصص.
نظرية مثيرة للجدل
الذي نعتقده بأن إسرائيل ولفنسون كان مغالياً جداً في نظراته لهذه المسالة؛ فهو يذكر مثلاً أن عمر قد استشار كعب الأحبار حول مسألة اتجاه القبلة عندما كان معه في القدس أثناء فتحها، ولم ينتبه ولفنسون ولا الطبري قبله إلى تهافت الرواية؛ حيث إن القبلة صارت نحو البيت الحرام قبل وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – والأمر محسوم في آيات بينات من القرآن الكريم, فكيف يسأل عمر عن ذلك؟ وأنه كان حاضراً للحوار الذي جرى بين عثمان، وأبي ذر الغفاري، وأن الأخير قد نهر كعب الأحبار لتدخله في المسألة التي كانت بين عثمان، وأبي ذر؛ مما لا مجال للخوض فيه في هذا المجال الضيق.
وعليه؛ فمن الممكن أن جماعات يهودية قد نسبتها إلى كعب الأحبار، وكذلك يذكر ولفنسون مسألة اشتراك كعب الأحبار في غزوة قبرص مع معاوية بن أبي سفيان، ومع بعض الصحابة مثل أبي الدرداء، وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود؛ مما يضعف نظرية إسرائيل ولفنسون إلى حد ما, ولكن تبقى نظريته مثار جدل ورد وبدل، ولكنها جديرة بالتمعن لما لها تأثير سلبي كبير على مفاصل الفكر الديني الإسلامي الذي نعتقد أنه يحتاج إلى كثير من الدراسات الموضوعية في هذا المجال.