العلمانية العربية حلّت محل الاستعمار والاستشراق، تقوم بمهامهما تماما لأن وحدة الهدف تجمع الطرفين، ويكفي تتبع أعمال من يسمَّون “المفكرين المستنيرين” لرؤية المنظومة الغربية بارزة فيها على مستوى المحتوى والمنهجية والتصوّر، غي أنها منظومة تجرّدت من محاسن العلمانية الأصلية كالحرية والحيادية تجاه الدين، وتلبّست بجميع مساويها، وهمّها ينحصر في الانتصار للمرجعية الثقافية الغربية باعتبارها نهاية التاريخ، والعمل على تشويه الإسلام من كل الزوايا وبجميع الوسائط كالأدب والفن والدراسات الأكاديمية.
ويأتي في مقدمة أولوياتها هدم الشريعة والأخلاق ونبذهما كمرجعية وإنكار إمكانية إسهام الوحي في المعرفة الإنسانية فضلاً عن إدخال أحكامه في المنظومة القانونية العالمية، ولا يتورّع العلمانيون العرب – وعلى رأسهم ”المفكرون المستنيرون” – عن الافتراء على الإسلام وشرائعه وتاريخه وتزوير حقائقه مهما كانت ناصعة، ففرج فودة – على سبيل المثال – أعاد قراءة تاريخ المسلمين من زمن الرسالة إلى اليوم فلم يجد فيه إيجابية واحدة، كيف ؟ عمد إلى الأسلوب الانتقائي الفجّ فأغفل كل ما يُحمد والتقط كل نقيصة صحيحة أو مفتعلة عبر القرون وسمّى كاتبه ” الحقيقة الغائبة ” وخلص إلى أن الإسلام والمسلمين مصيبة كبرى نزلت بالبشرية يجب إهالة التراب عليها، وهذا ما لم يجرأ عليه أعتى المستشرقين.
إنها علمانية متوحشة تتبنّى أكثر المقولات الاستشراقية افتراء على الإسلام كربط تخلف المسلمين بتمسكهم بالدين، وكأن أقطابها لا يقرؤون لا التاريخ ولا الوحي ولا التراث، بل هم مطلعون على كل هذا لكن بقراءة تبعيضية نصفية متحيّزة لا مكان فيها للموضوعية أو الأمانة العلمية، لذلك لم تُجدهم هذه القراءة في شيء لأنهم ضحايا مزاعم القراءة المعاصرة للقرآن، فمنهم من ينكر الوحي أصلا ومنهم من يدعو إلى قراءة نصوصه قراءة علمانية أي قراءة موجهة ليتلاءم مع الفكر الغربي العلماني، لذلك يرفضون تراث جميع الفقهاء والعلماء والمفكرين القدامى والمحدثين لأنهم جميعا متمسكون بالدين في قراءتهم واجتهادهم بينما يرفض العلمانيون ذلك.
إنهم متحصنون داخل كهوفهم الأيديولوجية، لم يخرجوا منها منذ قرن ونصف، لم يتغيرون ولم يتبدلوا، بقوا جامدين إقصائيين، يزعمون أنهم يمتلكون الحقيقة، ويلاحظ المتتبع لمسيرتهم أن حقدا إيديولوجيا دفينا يسكنهم، يحجب عنهم الحقائق و الوقائع.
ففي الجزائر مثلا تغافلوا على الرمز الثورية والعلمية والأدبية عبر العصور وأحلّوا محلها رموزا أخرى فرنسية ومسيحية، وذلك نكاية في ثوابت المجتمع وفي الشعب المتمسك بدينه ولغته وتاريخه، تتوزع هذه الرموز المصطنعة بين:
– القديس أوغستين: وجه بارز في الكنيسة الكاثوليكية، بزعم أنه ابن الجزائر لأنه وُلد بها، وتناسوا أنه لم تكن له أي صلة بشعبه بل كان عميلا للدولة الرومانية الغازية، أما الشيخ ابن باديس فقد صرحت تلك المرأة المسترجلة المدلّلة أنه “الأصولي الأول”.
– شارل دي فوكو: جاسوس فرنسي انتحل في أواخر حياته صفة الزاهد وسكن الصحراء وقضى سنواته الأخيرة في النشاط التنصيري حتى قتله أحد المجاهدين الغيورين على دينهم المحبّين لبلدهم.
– ألبير كامو: هو كاتب شيوعي وُلد في الجزائر من أسرة من المحتلين الفرنسيين، أثناء حرب التحرير أعلن بوضوح انتصاره لأمّه كما قال ( أي فرنسا ) على حساب الحق والحرية.
– ماري لويز(الطاوس عمروش): أديبة وفنانة قبائلية ارتدّت مع أسرتها عن الإسلام وتنصّرت، لذلك يمجدونها على حساب الرموز القبائلية الأصيلة التي خدمت الإسلام والعربية وفدت بنفسها الجزائر.
إن هذه العلمانية المتبجحة بالعلم لا تستحي من التناقضات الواضحة التي تتحرك في أرجائها، فهي ترفض أن يتدخل الدين في نقد الأعمال الأدبية والفنية لكنها تبيح لنفسها نقد الدين والوحي والأخلاق والمتدينين والعلماء، ترفض المقدس الديني وتصف بعض العبادات كالطواف بالكعبة بالوثنية ولكنها تقدس أتاترك، وتضع مراسيم دقيقة وطقوسا ملزمة لتعظيمه، تتبنى الحرية كقيمة إنسانية مطلقة لكنها تأبى أن ينعم بها غير العلمانيين، والذي تؤمن به هو حرية الهدم لا البناء.
والعلمانية في البلاد العربية أسماء متعدّدة لمسمّى واحد، وإنما اختلفت العناوين عن الحقيقة والجوهر لأن المسلمين – إلاّ أقلية ضئيلة منهم – يرفضونها في مجال الفكر والسياسة لربطهم لمفهومها بالإلحاد ومناهضة الإسلام الذي يعدّونه هويتهم وشخصيتهم، فالعلمانيون ديمقراطيون هنا، جمهوريون هناك، ليبراليون هنالك، وكلهم ينسبون أنفسهم إلى الحداثة، وهم قرة عين الاستعمار القديم والحديث، فقد ورد في تقرير مؤسسة رند الأمريكية المشهورة أن المعتدل الذي يجب تشجيعه هو الليبرالي العلماني الذي لا يؤمن بالشريعة الإسلامية، يؤمن بحرية المرأة في اختيار رفيقها، يؤمن بحق الأقليات في تولي المناصب العليا …، وهذا ما تبشر به أدبياتهم وإعلامهم وأحزابهم، وكلّ من يأبى الذوبان في المرجعية الغربية فهو بالضرورة أصولي متنطع بل إرهابي لا شكّ في خطورته على الحياة والأحياء والمجتمع الدولي!!!
إن غلاة العلمانيين العرب أصحاب أمراض فكرية مستعصية وأصحاب أهواء لا تترك مكانا للمبادئ والقيم النبيلة، صرّح أكثر من واحد من أقطابهم أنه يرفض الشريعة لأنه لا يستطيع الامتناع عن تناول الويسكي، وخلاصة تأصيل المدرسة الأركونية أن الفكر الغربي المعاصر يمثل نهاية التاريخ وعلى الإسلام أن ينصهر فيه كلية ليبقى مقبولا، وهذا هو التجديد الذي بشّر به أركون طول حياته و تروّجه العلمانية في بلادنا بتمرّدها على الدين والأخلاق والشعوب، وتصبح عدوانية ضد كل ذلك مقابل استسلامها تجاه الغرب، ولذلك فالعلماني العربي إنسان متغرب متخلف فَقَد اعتباره لذاته، يخجل من انتمائه ويزدري ذاته ولا يستطيع مواجهتها، يُعجَب بقاهره فتظهر حالات التزلف والانبطاح أمام المحتل والدكتاتور والظالم، يجرّ عُقَد النقص ويعجب بالمتسلط ويستسلم له في تبعية كلية عمياء، والطامة أنه لا يكتفي بذلك بل يريد تعميم هزيمته النفسية وتبعيته الفكرية على الأمة كلها، إنه إنسان مزيّف يتظاهر بأنه غربي متحضّر بينما يحمل عقلية عبد من العبيد، وخلافه ليس مع ما يسميه “الإسلام السياسي” بل هو مع الإسلام كما أنزله الله تعالى، لا يقبل الدين – إن قبله ظرفيا وتكتيكيا – إلا كبنية ثقافية لها مرتبة أي إنتاج بشري، لذلك يحب الفكر الإرجائي الذي يُخرج العمل من الإيمان، و يتسامح مع الصوفية خاصة المتطرفة التي حوّلت الدين إلى ترهات وشطحات فكرية وسلوكية.
رغم كل هذا، رغم الدعم الخارجي والداخلي، الخفي والمكشوف، يبقى الإسلام شامخا بفضل تمسك الأمة به، وهذا إعلان عن إخفاق العصرانية والعقلانية والحداثة أمام دين الله تعالى، لأنها هي الإرهاب المسكوت عنه، والأمة واقفة في وجه الأصنام بمطرقة الحق.
المصدر: رابطة العلماء السوريين.