خاضت الأحزاب السياسية التركية الأحد 16 أبريل 2016م معركة الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي أقرها البرلمان التركي قبل أربعة أشهر، وكما كانت عملية التصويت على التعديلات الدستورية في البرلمان أشبه بالمعركة بين النواب، فقد جاءت نتائج الاستفتاء وكأنها معركة بين الأحزاب السياسية التركية أيضاً.
فالنتائج تشير إلى فوز “نعم” بنسبة 51.4% مقابل 48.6% لصالح “لا”، أي إن معركة الاستفتاء التي قادتها الأحزاب السياسية التركية كانت معركة متقاربة في نتائجها وإن أعلن نجاح الاستفتاء بـ”نعم” بنسبة ضئيلة، ما يؤكد أن المعركة هي معركة الأحزاب السياسية هو أن الرئيس التركي السيد رجب طيب أردوغان بعد ظهور النتائج الأولية أرسل رسائل تهنئة لزعماء الأحزاب السياسية التي شاركت في حملة “نعم” للتعديلات الدستورية؛ وهي: حزب العدالة والتنمية، وحزب الحركة القومية، وحزب الاتحاد الكبير، وحزب الهدى الكردي جنوب تركيا وغيرها.
وفي المقابل، فإن الجهات المعترضة على النتائج؛ هما حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي، ولذا طالب الرئيس أردوغان بفتح باب الحوار والتعاون بين هذه الأحزاب بعد انتهاء الاستفتاء.
ومن الملامح المهمة لهذا الاستفتاء، أن ثلث الأصوات الكردية قد صوتت بـ”نعم” لصالح التعديلات الدستورية، وهذا يؤكد أن الشعب الكردي في تركيا ينتمي انتماء حقيقياً لتركيا، وهو جزء من الشعب التركي في عملية الاستفتاء، والمفاجأة الأخرى أن التصويت في كبرى ثلاث مدن تركيا؛ وهي: أنقرة وإسطنبول وإزمير، حيث إن نسبة التصويت بـ”لا” فيها أكثر من 50%، وهذا يشير إلى تأثير الحملات المعادية للاستفتاء الداخلية والخارجية على المدن الكبرى؛ لأنها كانت محل الخطاب المعادي للاستفتاء.
والملاحظة الأخرى هي أن أصوات حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية في البرلمان التركي التي تعادل نحو 65% من مجموع أصوات البرلمان، لم تستطع مجتمعةً تحقيق هذه النسبة في الاستفتاء، وهذا يعني أن كلا الحزبين لم يستطع إقناع جميع جمهوره وأعضائه بجدوى التعديلات الدستورية، وقد يكون ذلك في حزب الحركة القومية أكبر منه في حزب العدالة والتنمية، فقد أعلنت قيادات كبرى في حزب الحركة القومية أنهم سيصوتون بـ”لا”، على خلاف رأي رئيس الحزب دولت باهشلي، وفي كل الأحوال فإن نسبة تُقدر بنحو 15% من أصوات حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية لا تشارك قناعات وتوجهات قياداتها السياسية، وهذه نسبة ينبغي الاهتمام بها ومخاطبتها في المرحلة المقبلة.
إن أهم ما تعكسه هذه النسب أن تركيا دولة ديمقراطية بكل معنى الكلمة أولاً، ولديها شعب لا ينقاد لأحزابه السياسية دون تفكير ولا محاسبة ثانياً، وأن الشعب التركي يثق بقياداته السياسية، سواء كانت في الرئاسة أو السلطة التنفيذية الحاكمة ممثلة بالحكومة التركية أو كانت بالمعارضة السياسية، فكل حزب من الأحزاب السياسية التركية الممثلة في البرلمان تمكن من التأثير على نسب التصويت، وهذا يعني أنها مؤثرة في الناخب التركي ومتفاعلة معه، وهذه دلالة مهمة جداً بأن الشعب التركي شعب حي وفيه حيوية قوية، فالشعب توجه للاقتراع بنسبة كبيرة جداً، وعبر بكل حرية بما يريده دون إكراه ولا تزوير ولا طعن في مصداقية التصويت.
لقد مثل يوم 16 أبريل يوماً تاريخياً بالنسبة للشعب التركي، فالشعب هو من يصوّت على دستور البلاد، في حين أن الدساتير السابقة تمت صياغتها ممن يلبسون البزة العسكرية منذ تأسيس الجمهورية الأولى عام 1923، كما يمكن اعتبار هذا الفوز بـ”نعم” على ضآلته بالفارق بين “نعم” و”لا” بنحو 3% على أنه انتصار للرئيس أردوغان، فهو ومنذ مشاركته في الحياة السياسية قبل ربع قرن وهو ينادي بالنظام الرئاسي، وقد عمل كثيراً لإقناع الشعب التركي، وإقناع الأحزاب السياسية التركية بأن تقوم بتغيير الدستور ليصبح نظاماً رئاسياً، الذي يعِد بتغيير مستقبل تركيا نحو القوة السياسية والازدهار الاقتصادي وبناء تركيا الجديدة الديمقراطية.
إن الاستفتاء في النهاية يعني أن الشعب التركي قد أعطى رأيه وعبّر عن موقفه في نظامه السياسي الرئاسي، وهذا موقف مشابه لما حصل قبل عشرة أشهر يوم 15 يوليو 2016 عندما انتصر الشعب التركي بحماية الديمقراطية وهزيمة الانقلابيين، الذين حاولوا سرقة قرار الشعب بالانقلاب العسكري، فالشعب وقف ضد الانقلاب بالكامل؛ لأنه كان في معركة وجود، بينما في معركة المسار السياسي ونوعه وأفضلية نظامه السياسي فقد انقسمت الأصوات الشعبية في الاستفتاء، وهذا مؤشر إيجابي، ولكنها متحدة بكل معاني الوحدة والحرية والإدراك لمخاطر التحديات؛ لأن الاختلاف كان على طريقة بناء تركيا قوية، سواء بالنظام الرئاسي أو النظام البرلماني.
والآن وبعد انتهاء معركة الأحزاب السياسية التركية حول “نعم” و”لا”، لا بد أن تتوجه الجهود لفهم حقيقة التعديلات الدستورية وإيجابيات النظام الرئاسي، فالمواقف السلبية لقيادة الأحزاب السياسية، وبالأخص أحزاب المعارضة، أنها ركزت على التخويف من النظام الرئاسي ومن التعديلات الدستورية دون أن تجري دراسة متعمقة عنها، وقد يكون ضغط الاستفتاء حال دون التفكير العميق في هذه التعديلات.
الحوار العقلاني
لكن وبعد نجاح “نعم” ولو بنسبة ديمقراطية ضئيلة، فإن الحوار العقلاني ينبغي أن يحل محل التنافس السابق، فقد أقر الاستفتاء التعديلات الدستورية كما أقرها البرلمان التركي من قبلُ، والدولة التركية سوف تتوجه خلال السنتين المقبلتين نحو النظام الرئاسي الجديد، فكل الطعون التي تتحدث عنها أحزاب المعارضة لن تجد مستنداً قانونياً كافياً لها، كما حصل في طعونها بالانتخابات النيابية والرئاسية السابقة، فالمعارضة تمارس سياسة الطعون بعد كل انتخابات تخسرها؛ لتخفيف وطأة الهزيمة أمام أنصارها في الغالب، بينما المحاكم التركية تتعامل مع الوقائع والقانون.
إن المعارضة التركية الآن أمام مسؤولية العمل لاستقرار تركيا، وبالأخص الاستقرار السياسي الحزبي؛ لأن الاستقرار السياسي من شروط نجاح المشاريع الاقتصادية، فنتائج الاستفتاء ظهرت ولن تعود تركيا للوراء، والشعب اتخذ قراره الحر، وأثبت أنه جدير بالحرية التي يعيشها ودافع عنها، فنحو 25 مليوناً تقريباً صوتوا بـ”نعم”، وأقل منهم بمليون واحد تقريباً صوتوا بـ”لا”، ومن ثم فإن نحو خمسين مليون مواطن تركي صوتوا في هذا الاستفتاء من أصل 55 مليون مواطن يحق لهم التصويت قانونياً، فتركيا أنهت نقاشاً طويلاً حول النظام السياسي الأفضل لتركيا، وليس من مصلحة الشعب البقاء في هذه الدائرة بعد الآن.
إن التعديلات الدستورية التي أقرها خمسة وعشرون مليوناً بـ”نعم” هو عدد كبير من أبناء الشعب التركي الذين يحق لهم المشاركة في القرار السياسي الشعبي، واختلاف نسبة التصويت بين مدينة وأخرى، ليس مؤشراً سلبياً، سواء بين شمال وجنوب أو شرق وغرب؛ بل هو دليل على أن الشعب التركي كافة ينتمي إلى هذه الدولة بوعي وصدق، فالاستفتاء له معناه الأكبر؛ وهو أن الشعب هو من يضع الدستور ويغيره، فالسادس عشر من أبريل 2017 هو يوم النصر الديمقراطي الشعبي، وكان ينبغي أن يقال هذا الكلام نفسه لو كان القرار الشعبي على العكس من ذلك، فمعركة الأحزاب السياسية هي معركة بناء وليست هدماً.
المصدر: الخليج أونلاين (بتصرف يسير).