قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4)؛ تدل هذه الآية الكريمة على أن اتفاق اللسان واللغة سبب للإبانة والتبليغ اللذين هما المقصد الأساسي من إرسال الرسل والأنبياء لإقامة الحجة على الناس؛ فاللغة هي الوسيلة الأساسية لتوصيل الرسالة وتبليغها، ولذلك أرسل الله كل رسول بلسان قومه ولغتهم حتى يحسن تبليغ رسالته وتوصيلها لقومه دون لبس أو تحريف أو تبديل.
وشاء الله -عز وجل- أن يشرف اللغة العربية ويعلي قدرها ويرفع ذكرها؛ فجعلها لغة الإسلام الأولى؛ فأنزل بها القرآن، وجعلها لغة نبيه عليه السلام؛ حيث قال -عز من قائل-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الشورى: 7)، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2)، وقال -عز وجل-: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 3).
فاللسان العربي هو شعار الإسلام ومن شعائر العرب التي يُكره تغييرها حتى في المعاملات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون”. وقال أيضا: “وما زال السلف يكرهون تغييرَ شعائرِ العربِ حتى في المعاملات وهو التكلّم بغير العربية إلا لحاجة، كما نصّ على ذلك مالك والشافعي وأحمد؛ بل قال مالك: مَنْ تكلّم في مسجدنا بغير العربية أُخرِجَ منه”.
وتعلم اللغة ضرورة لفهم القرآن، فقد قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “من أراد تفهم القرآن فمن جهة لسان العرب يُفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة”.
وإذا كان الدعاة هم ورثة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في تبليغ الرسالة وتوصيلها للناس خالية من الشوائب نقية من العيوب.. فإن عليهم تعظيم شعار الإسلام المتمثل في اللغة العربية وتعلمها حتى يُحسنوا فهم النصوص فهما صحيحا ويبلغوها للناس بهذا الفهم دون تحريف أو تبديل. وقد قال الإمام الشافعي في معرض حديثه عن ابتداع الناس في الدين: “ما جهل الناس، ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب”.
وذهب ابن تيمية إلى أن معرفة اللغة واجب وفرض؛ حيث يقول –رحمه الله تعالى-: “اعلم أنّ اعتياد اللغة يؤثر في العقلِ والخلقِ والدينِ تأثيرا قويّا بيّنا، ويؤثر أيضا في مشابهةِ صدرِ هذه الأمّةِ من الصحابةِ والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقلَ والدينَ والخلقَ، وأيضاً فإنّ نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ؛ فإنّ فهم الكتاب والسنّة فرضٌ، ولا يُفهم إلاّ بفهم اللغة العربية، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب”.
نظرة على الواقع
لا يخفى على مراقب للواقع الحالي ما تمر به الأمة العربية والإسلامية من اغتراب ثقافي وتشظٍّ فكري، ربما يكون انعكاسا لواقع سياسي مأزوم، له أثره المباشر والواضح على اللغة العربية التي تعاني من هجران اجتماعي وتنحية لها من معظم مظاهر الحياة العامة، حتى انزوت في بطون الكتب والمراجع التراثية المقصورة على الباحثين والأكاديميين.
وحال الدعاة في التعامل مع الواقع المأزوم للغة العربية لا يختلف كثيرا عن باقي شرائح المجتمع.
وبصورة عامة يمكن تقسيم موقف الدعاة مع اللغة العربية إلى ما يلي:
أولا- فريق تشدد في تدينه ودعوته فتشدد في لغته وخطابه؛ فهو يستخدم من الألفاظ أصعبها، ومن العبارات أعقدها، ومن المعاني أبعدها عن الفهم، وكأنه في سوق عكاظ أو ذي المجاز أو المربد، أو كأنه يتحدث أمام حكام العرب في اللغة والأدب كالنابغة الذبياني أو الأقرع بن حابس.
وكان من نتيجة ذلك ما يلي:
حجب دعوته عن قاعدة عريضة من عامة الناس، ومن وقفت معارفهم عند محو أميتهم في القراءة والكتابة.
كانوا سببا في نفور كثير من الناس من الدين والدعوة إليه؛ لظنهم أن هذه اللغة المتقعرة من طقوس هذا الدين، وعليهم إذا أرادوا الدعوة أن يتقنوها.
كانوا سببا في نفور بعض الناس من اللغة العربية وإتقانها؛ لظنهم أن ما ينطقه هؤلاء هو المعبر الحقيقي عن اللغة فانصرفوا عنها واتجهوا لغيرها من اللغات.
ابتعدوا عن روح الإسلام السهلة السمحة التي تتجلى سماحتها في لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
أوجد فرصة للمتربصين بالدين أن يستهزئوا من كل داعية ومتدين، كما نجد في كثير من وسائل الإعلام من يتقعر في اللغة بل وربما ينطق بعض الألفاظ والعبارات الخارجة عن حدود اللغة أصلا؛ باعتبار أن هذه هي لغة المتدينين.
ثانيا- فريق أراد التيسير في الدين لتحبيب الناس فيه وسرعة وصوله إلى قلوبهم وعقولهم؛ فحسنت نيتهم وساءت وسيلتهم؛ حيث تساهلوا في اللغة أيما تساهل وأغرقوا في العامية ولهجاتها؛ فنزلوا إلى حضيض المجتمع وبدل أن يرتقوا به وبلغته تأثروا به وأقروه على ما هو عليه؛ فتجد لغة أحدهم أمشاجا مختلطة من اللغة العامية وبعض الألفاظ والمصطلحات الأجنبية وبعض العبارات باللغة الفصحى وما يحفظه بالكاد من شواهد قرآنية أو أحاديث نبوية، أو إن تحسن حاله قليلا حفظ بيتا أو بيتين من الشعر، متناسين أن كثيرا من مدعويهم الذين نزلوا إليهم يتقنون أكثر من لغة أجنبية، وأنهم قادرون على إتقان العربية إن وجدوا منهم تشجيعا على ذلك. وقد ساعد على انتشار هذا الأمر تنامي ما سمي بظاهرة “الدعاة الجدد”.
وربما يحاول البعض تلمس العذر لهؤلاء الدعاة بأنهم لم يتخرجوا في معاهد دينية أو لغوية حتى يتقنوا اللغة.. ولكن يُرد على ذلك بأنه كيف يفهمون معالم الدين ومقاصده دون أن يفهموا لغته التي وصل بها إلينا؟! وكيف نأمن على دعوة هؤلاء وأنهم سيحسنون توصيل الدين للناس وهم لا يتقنون لغته؟ ألا يخشى هؤلاء أن يحرفوا أو يبدلوا أو يسيئوا فهم الدين دون أن يشعروا؛ فيكونوا سببا في إضلال الكثير؟
إننا لا ندعوهم إلى أن يكونوا جهابذة في اللغة، ولا نقول لمن لا يتقن اللغة “توقف عن الدعوة”؛ فالرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- قال: “بلغوا عني ولو آية…”، ولكن على من يتصدى للدعوة العامة في الناس أن يتعلم من اللغة ما يفهم به الدين، وما يحسن به تبليغه للناس، دون لبس أو إلباس.
وكان من نتيجة هذا الموقف ما يلي:
قصر هؤلاء دعوتهم على أبناء عاميتهم فقط، وحجبوها عن شريحة كبيرة خارج إطارهم؛ فمن يتحدث العامية المصرية مثلا سيصعب فهمه على عوام بلاد المغرب والخليج، ومن يتحدث بعامية أهل الخليج سيصعب فهمه على غير سكان الخليج؛ بل وربما نجد في البلد الواحد لغيات ولهجات مختلفة.
يجد هؤلاء نفورا من بعض كبار المثقفين والأكاديميين الذين لا تروق لهم هذه العامية المفرطة.
لغة هؤلاء تكون شوهاء متنافرة؛ فهذا الداعية العامي إذا استشهد بآية قرآنية أو حديث نبوي أو قول مأثور فإن الأذن تشعر بنشاز حين انتقاله من لغته هو العامية إلى هذه اللغة الراقية.
ربما يتهم هؤلاء بتمييع الدين والتفريط في اللغة التي نزل بها والتي نتبعد الله بها، وشجعوا الكثير من الشباب على عدم الاهتمام باللغة العربية، راضين بما يسمعونه من دعاتهم وقدواتهم من عامية.
قصّر هؤلاء دون أن يدروا في جانب مهم من الدعوة؛ وهو الدعوة إلى احترام لغة القرآن وتقديسها، والارتقاء بها؛ فاللغة قيمة دينية وحضارية لا تقل عن كثير من قيم الدين التي يدعو هؤلاء الدعاة إليها.
ثالثا- فريق وسطي في دعوته ولغته؛ فلغته سهلة عذبة رقراقة، تصل إلى الأذن فتطربها وإلى العقل فتحركه وإلى القلب فترققه، يفهمها المثقف والأمي، كما يفهما المفكر والنخبوي، يفهما أبناء عامة الناس كما يفهما أبناء الطبقة المخملية.
تجد أحدهم يتكلم الساعات الطوال فلا تكل ولا تمل؛ فعبارته مفهومة ولغته واضحة ومعانيه سهلة، تجد اتساقا في كلامه بين ما ينطق به وما يستشهد به من آثار؛ فإذا استمعت له أنصتَّ وإذا قرأت له تدبرت؛ فالإنسان أسير الإحسان وهو قد أحسن إليك إذ لم يشق عليك بعبارته ولم يرهقك بألفاظه، وأيضا لم تجد أذنك منه نشازا ولم يُسمعك من القول عوارا.
ونتائج هؤلاء أكثر من أن تذكر وأكبر من أن يحاط بها؛ فليس أكبر ولا أعظم ممن تألفت حوله القلوب وتشنفت له الآذان وفتحت له العقول؛ فحبب الناس في دين الله فأحبوه؛ فهو يجمع ولا يفرق ويبني ولا يهدم ويبشر ولا ينفر، استوعب قول الله تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)؛ فهو قد لان قلبه فلانت عبارته دون ميوعة، ورَقَّ طبعه فلم يغلظ قوله.
واجب الدعاة تجاه اللغة
إذا كان على الدعاة واجب الدعوة إلى دين الله تعالى والتمسك بأخلاق الإسلام وآدابه وقيمه؛ فليعلموا أن عليهم واجبا كبيرا تجاه اللغة التي نزل بها هذا الدين والتي نعبد الله تعالى بها، وتتمثل هذه الواجبات فيما يلي:
اقتناع الداعية أولا بفضل اللغة ومكانتها من الدين ودورها في نهضة الأمة وتقدمها؛ فقناعته تنعكس على موقفه وسلوكه تجاهها.
تعزيز الثقة باللغة العربية عند الناس؛ باعتبارها مكونا من مكونات الأمة، والاعتزاز بها حفاظ على كيان الأمة، واعتبار التفريط في اللسان العربي القرآني تفريطا في الهوية…
على الدعاة أن يحرصوا على أن يكون حديثهم باللغة الفصيحة السهلة الواضحة.
أن يحرص الداعية على أن يكون في مكونات ثقافته تعلم اللغة بالقدر الذي يسمح له بالتحدث بها دون إخلال بالمعاني.
حرص الدعاة على عدم إدخال مصطلحات أجنبية في أثناء حديثهم إلا ما دعت إليه الضرورة.
عدم اللجوء إلى اللهجات العامية إلا في أضيق الظروف كأن يروي الداعية مثلا قولا أو حديثا سمعه من أحد العوام وأراد إيصاله كما سمعه.
على الداعية أن يفرد أحاديث ولقاءات للغة العربية ومكانتها ودورها في نهضة الأمة وفضل تعلمها والاهتمام بها.
يحرص الداعية في أثناء لقاءاته على أن يدرب الناس على التحدث باللغة الفصيحة؛ فيجعل الحوار بينه وبينهم بالفصحى، دون مشقة أو إحراج لأحد.
يتوافق بعض الأئمة في مساجدهم على تخصيص أسبوع للغة العربية تكون التوصية فيه بأن يكون الحديث خلال الأسبوع كله باللغة الفصيحة حتى في حوارات الحياة العامة حتى يألف الناس اللغة.
على الجامعات الشرعية ومعاهد إعداد الدعاة الاهتمام باللغة العربية وحسن تحدث الطالب بها، على أن يكون ذلك بصورة عملية تطبيقية دون الاقتصار على القواعد والمتون فقط، كما هو الحال الآن في كثير من المعاهد.
على الدعاة في الغرب الحرص على تعليم اللغة للناطقين بغيرها عن طريق القيام ببعض الدورات التدريبية، وطباعة بعض الكتيبات المبسطة لتعليم اللغة، وتحبيبهم فيها، وتشجيعهم على تعلمها.
على وزارات الأوقاف والهيئات الدعوية الرسمية إجراء دورات تدريبية للأئمة والدعاة في اللغة وفروعها المختلفة بما يتيح لهم حسن التحدث بها.
تحفيز الشباب في الكليات العلمية المتخصصة على أن تكون من موادهم الاختيارية مادة تتعلق بالثقافة واللغة العربية، إن تيسر ذلك.
تنظيم حملات لأصحاب المحال التجارية وتوعيتهم بأهمية استخدام اللغة العربية في أسماء وعناوين محالهم، بدلا من الأسماء والعناوين الأجنبية.
تحفيز الطلاب على الاستفادة من الإجازة الصيفية في إتقان الخط العربي والقواعد الإملائية؛ بحيث يوجد من يجمع بين جمال الخط العربي وجمال القواعد اللغوية.
الاهتمام بأن تكون أسماء الأطفال باللغة العربية المناسبة للعصر؛ فلا تكون فصحى متقعرة ولا عامية مفرطة ولا أجنبية وافدة.
وفي النهاية فإن لغة جميلة وحيوية كلغتنا يجب أن نتباهى بها بين الأمم وأن يفخر بها أبناؤها ويبحثوا عن صدفاتها فيخرجوها نقية صافية زكية؛ كالوردة الفيحاء التي تعجب الناظرين في حديقة اللغات.
فالعجب أن نملك مثل هذا الكنز الثمين ثم نتخلى عنه ونهرب منه وربما يجد البعض حرجا في الانتساب إليه!! حتى هانت علينا لغتنا التي هي سر نهضتنا، وهانت علينا أنفسنا، فهُنَّا على الناس وأصبحنا في ذيل الأمم..
فهل يدرك الدعاة عظم المأساة، ويقومون بواجبهم تجاه أمهم الرؤوم التي تنتظر منهم الكثير؟
المصدر: موقع “مهارات الدعوة” (بتصرف يسير).