مرة أخرى يشعر الأردنيون وكأنهم في دوامة بداياتها أصبحت جزأ من التاريخ السياسي للأردن ونهاياتها غير معلومة، ولو أن المؤشرات لا تبشر بالخير أبداً كوْن العوامل المؤثرة والقوى الفاعلة فيما هو قادم هي خارج نطاق التأثير والنفوذ الأردني، ومؤسسات الدولة الدستورية التي تم تجميدها قد أصبحت خارج نطاق الفعل المؤثر.
ما نحن بصدده من تحديات هو النتيجة الحتمية لمسار طويل استمر عقوداً في تبني نهج أدى إلى إضعاف كامل مؤسسات الدولة الدستورية وحوَّل الأردن إلى دكتاتورية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني.
إن حجم المخاطر والتحديات القادمة من خارج الأردن تفترض أنه لا يجب السماح بترك مصير البلد بيد شخص واحد مهما كان ذلك الشخص ذكياً وحكيما، لأن التبعات المترتبة على قراراته سوف تمس الوطن والدولة ككل والأردنيين جميعاً، بالإضافة إلى الأجيال القادمة التي قد ينتهي بها الأمر بأن تعيش في وطنٍ يقبع تحت النفوذ أو الوصاية الأجنبية إن لم يكن الاحتلال بصوَرِهِ وأشكالهِ الجديدة المختلفة، هذا فيما لو وقع المحظور.
لا يهدف هذا الحديث إلى إثاره الخوف أو الهلع، بقدر ما يهدف إلى فتح العيون على الحقيقة المرَّة بأن أخطاء الآباء سوف يدفع ثمنها الأبناء والأحفاد، فما قد يَقْبَل به الآباء الآن طمعاً في نفوذ أو ثروة سوف يُحوِّل الأردن إلى كيان هُلامي من الصعب إعطاؤه صفة محددة، فالتغني بالوطن قد يَفْقِد معناه إذا لم يكن هنالك فعلاً وطن بإرادة مستقلة قادرة على مقاومة المخططات والأخطار الخارجية، وعلى الأردنيين إذا ما أرادوا المحافظة على وطنهم وعلى استقلاله واستقلال إرادته أن يعملوا بجد على وقف انهيار الدولة ومؤسساتها والعمل بجدية على العودة إلى دولة القانون والمؤسسات والتعددية السياسية.
يتسأل معظم الأردنيين عن الأسباب وراء سعي النظام إلى الالتفاف على ما هو مطلوب عوضاً عن التصدي لما هو مطلوب وبالتالي العمل على حل مشكلات البلد بطريقة مباشرة، إن الاستمرار في الخطأ عوضاً عن وقفه، وحصر الجهود فقط في معالجة الآثار السلبية لمسلسل الأخطاء، ناهيك عن الكلفة المادية والمعنوية المترتبة على ذلك، هي ما يثير التساؤل عن صدق نوايا الحكم في تعامله مع التحديات السياسية والاقتصادية والتنموية والاجتماعية التي تعصف بالأردن، ويبدو أن جُلّ اهتمام النظام ينحصر حالياً في التعامل مع التحديات الأمنية التي يتم تفسيرها عادة بما يخدم النظام ومصالحهِ قبل أي شيء آخر عوضاً عن الالتفاف نحو التحديات الحقيقية الأخرى.
لا يسعى الأردنيون إلى تغيير النظام بقدر ما يسعون إلى تغيير النهج الذي يسير عليه النظام وأولويات ذلك النهج التي يبدو أنها تتعارض بشكل جسيم مع ما يحتاجهُ الأردن ويريدُه الشعب، إن الخلط بين أولويات النظام وأولويات الشعب وجنوح العديد من المسؤولين نحو مسار إرضاء الحاكم والتزلف له وإعطاء الأفضلية لأولوياته طمعاً في امتلاك الحظوة وما يترتب عليها من مكاسب شخصية، قد تكون من أهم الأسباب وراء تجاهل النظام للمطالب الشعبية.
تفاقُمْ الوضع الاقتصادي لن يكون قادراً هذه المرَّة على ممارسة دور العباءة التي تستر ما هو قادم من تحديات وانهيارات سياسية، ومع أن التعديل الحكومي الأخير والهزيل قد صدم معظم الأردنيين كونه جاء مؤشراً على غياب أي نية حقيقية لدى النظام لإصلاح الأمور وتفعيل المطلب الشعبي الأساسي في العودة لدستور عام 1952 تمهيداً لإرساء معالم الملكية الدستورية الناجزة، إلا أن الخطر لا يكمن في ذلك حصراً وإنما فيما هو قادم من تحديات سياسية قد تدفع الأمور باتجاه إعطاء الأولوية للعمل على الحفاظ على بقاء الكيان الأردني واستقلاله واستقراره أكثر من الدفع باتجاه إصلاحات مطلوبة ومنتظرة، إن التحديات والمخاطر القادمة خصوصاً تلك المتعلقة بذيول صفقة القرن سوف تكون بالتأكيد تحديات وجودية بالنسبة للدولة الأردنية وطبيعة تكوينها الاجتماعي وهويتها السياسية، مما يعني ضرورةً توفر وعياً أكبر وإرادة أكثر تصميماً على ضرورة تصويب السلبيات كافة.
المطالبة بالإصلاح أصبحت أمراً غير واقعي أو ممكن نظراً لحجم الخراب المستشري في الدولة وفي أوساط النظام، ونظراً لأن مفهوم الإصلاح يفترض أن يتم ذلك بنوايا طيبة وإيجابية من الحكم وهو الأمر الذي يؤكد مسار الدولة وسياساتها عدم توافره، في حين أن مفهوم التغيير يفترض استجابة الحكم لمطالب الشعب والرضوخ لها خصوصاً وأنها تتم بأسلوب ضاغط ولكن سلمي بحكم الإصرار الشعبي على تغيير نهج الحكم الذي بلغ فيه الفساد درجة يصعب معها الإصلاح الطوعي المستند إلى النوايا الحسنة والطيبة للنظام الذي يعتبر الأردنيين أن نهجه على مدى العقود الماضية قد أوصل الدولة الأردنية إلى الخراب الذي تعاني منه الآن.
ضعف الحكومات الأردنية المتنامي يؤكد استمرار توافر النية لدى النظام في الأردن للاستفراد بمقدرات القرار السياسي دون أي تدخل أو رقابة من أحد، والتفرد والانفراد في حكم البلد سوف يحصر بالنتيجة المسؤولية التي قد تترتب عن نتائج مثل تلك السياسات بالنظام وحده، ولكن ما الفائدة من كل ذلك إذا وقع المحظور؟ الانفراد في عملية صنع القرار أو اتخاذه يعكس افتقار البلد المعني للعمل المؤسسي وحكم القانون وسيادة الدستور. وهذا يعني بكل بساطة انحسار مفهوم الدولة والولاء للوطن لصالح مفهوم المساحة الجغرافية والولاء للحاكم مما قد يؤدي إلى فقدان الدولة الوطنية لمعالمها وتحولها إلى ما يشبه الإقطاعية.
التلويح بالعصا الأمنية الذي ازداد مؤخراً لن يفيد، لأن ما يفيد هو التلويح بالإصلاحات الحقيقية ومعالجة بؤر الاحتقان المتزايدة في الوطن الأردني، التلويح بالعصا الأمنية وسوء اختيار المسؤولين وإعطاء الأولوية للولاء عوضاً عن الكفاءة هو ما يزيد الأمور سوءاً، فهو نذير شؤم لأنه يشير إلى نوايا الحكم في انتهاج سياسات مفروضة لا تحظى بقبول شعبي، كما تشير إلى تصميم الحكم على عدم إجراء إصلاحات حقيقية تؤدي إلى تغيير نهج الحكم مما قد يستوجب التهديد باللجوء إلى الخيار الأمني كوسيلة لاحتواء الغضب الشعبي وردود الفعل التي سوف ترافق إمعان النظام في تجاهل المطالب الشعبية.
الأردن مُقبل على تحديات خطيرة مرتبطة بما يسمى بـ”صفقة القرن”، وهذه التحديات ستكون مصيرية على واقع الأردن ومستقبله ولا يجوز أن يكون القرار في هذه الحالة بيد شخص واحد محاط بمسؤولين لا مرجعية شعبية لهم وكل ما يملكون هو رضا الحاكم عليهم أو قبوله بهم. إن محاولة تحسين صورة الحكم في الأردن من خلال حملة إعلامية مكثفة تركز على التواجد المتزايد لرموز النظام على الأرض الأردنية وعلى انفتاحهم وانخراطهم في لقاءات عامة مع الأردنيين في مناطقهم المختلفة، لا يشكل بديلاً عن ما هو مطلوب من تغيير في نهج الحكم ونمط المسؤولين والرفض الحاسم لما هو قادم من مخاطر على الوطن.
الخيارات السياسية القادمة واستناداً إلى خطورتها المتوقعة سوف تكون خيارات سيئة. وأسوأ ما يمكن أن يحصل هو القبول بها تحت أي حجة أو عنوان أو مسمى. القبول الأردني بتبعات ونتائج صفقة القرن، سواء أكان قبولاً علنياً طوعياً أو واقعياً صامتاً سوف يؤشر على كارثة سوف تضرب المصالح الأردنية والوطن الأردني في الصميم ولن تخدم إلا المصالح الإسرائيلية مما قد يؤدي بالنتيجة إلى انفجار الأوضاع في المنطقة العربية. فالنتائج النهائية لصفقة القرن سوف تكون عبارة عن مكاسب مطلقة لإسرائيل وخسارة مطلقة للعرب، والفلسطينيين والأردنيين يقفون على قمة الخاسرين لأن المطلوب منهم دفعهُ هو من لحم ودم أوطانهم في حين سيدفع باقي العرب من أموالهم فقط . لا يستطيع الحكم في الأردن أن يقامر بالوطن لحماية مصالحه وكذلك الحال بالنسبة للسلطة الفلسطينية وعلى كلا الطرفين الإعلان مبكراً عن رفض ما هو قادم جملةً وتفصيلاً وليس إصدار لا آت محدودة بمواضيع محددة.
المؤشرات الحالية في الأردن لا تبعث على التفاؤل. والوضع العربي المهلهل لا يبعث على التفاؤل، والولولة الصادرة عن العديد من الأنظمة العربية في رفض الضغوطات الحالية والقادمة لا تبعث على التفاؤل كونها لا تهدف إلى منع ما هو قادم، بل تبرير القبول به، والفرق بين الاثنين كبير جداً.
________________________
للتواصل: lkamhawi@cessco.com.jo