للضلال أسباب كثيرة وعوامل، حسبما تجري به سنة الله في عباده من ترتيب النتائج على مقدماتها واتباع المسببات لأسبابها، وقد تكون هذه الأسباب والعوامل فكرية، أو نفسية، أو أخلاقية، وقد ترجع إلى التأثر بالوراثة أو البيئة، أو النشأة أو طبيعة الحياة التي يحياها صاحبها أو غير ذلك من الأسباب والعوامل والتي من أهمها:
1 ـ الجحود:
ومن الأسباب التي رتب الله عز وجل عليها الضلال حسب سنته سبحانه وتعالى في الهداية والضلال: الجحود والذي يعني الإنكار مع العلم. قال تعالى: “وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي مَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون” (الأحقاف : 26). ” إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ”: بمنزلة التعليل لسلبه إياهم ما أنعم عليهم به من السمع والبصر والعقل، حتى وقعوا في الضلال() . قال تعالى: “وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ” (العنكبوت : 47) . وقال تعالى: “وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ” (العنكبوت : 48 ـ 49). وقال تعالى: “وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ” (لقمان : 32). والختار: الذي هو في غاية الغدر، والكفور: الذي لا يشكر نعمة الله، بل يجحدها.
وإذا كان مصير الجاحدين بآيات الله في الدنيا الضلال والغواية فإن مصيرهم في الآخرة الحسرة والندم، إذ يكونون من أصحاب النار. قال تعالى: “وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ” (الأعراف : 50 ـ 51).
2 ـ التأبي والعناد والتعنت:
فالتأبي عن الإيمان، وعصيان أوامر الله يؤديان لصاحبهما إلى الضلال، قال تعالى: “وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى” (طه : 56) .
وأما العناد فحالة نفسية تدفع بصاحبها إلى التأبي عن الانصياع للحق على سبيل المكابرة دون أن تكون لديه مبررات بذلك، حتى ولو كانت مبررات زائفة أو باطلة() . قال سبحانه وتعالى مبيناً أن العناد مانع عن الهدى وسبب في الضلال: “كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا” (المدثر : 16) .
وقال مبيناً على الضلال ومصوراً شدة عناد الضالين : “وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ” (الحجر : 14 ـ 15) . وقال سبحانه وتعالى عنه: “وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ” (الأنعام : 7) ، وقد بلغ العناد من كفر قريش غايته، حين قالوا: “اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” (الأنفال : 32) .
وأما مثال التعنت ما كان من كفار قريش عندما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية من ست آيات اقترحوها، ولو عقلوا لأدركوا أن في القرآن وفي الكون أضعافاً مضاعفة عن هذا العدد أو هذه الآيات التي طلبوها() ، قال تعالى حاكياً قول كفار قريش: “وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً” (الإسراء : 90 ـ 93) .
3 ـ الكِبر:
من أسباب الضلال طبقاً لسنته سبحانه وتعالى في الهداية والإضلال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “الكبر بطر الحق وغمط الناس”. وقال النووي الكبر هو الارتفاع عن الناس واحتقارهم ودفع الحق.
وقد وردت الآيات في ذم الكبر والمتكبرين وهو سبب الضلال والإضلال. قال سبحانه وتعالى عن الكفار: “إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ” (الصافات: 35) ، أي: يتعظمون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون. وقال تعالى: “إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ” (النحل: 22).
وقال عن ضلال اليهود بسبب كبرهم: “أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ”(البقرة : 87).
وأما قوم نوح فقد وصفهم نبيهم عليه السلام كما حكى القرآن ذلك: “وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا” (نوح: 7) ، فقوله: ” جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ” لئلا يسمعوا صوتي ” وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ” أي: غطوا بها وجوههم لئلا يروني، وقيل جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي فيكون استغشاء الثياب على هذا النحو زيادة في سد الأذان. وقال تعالى: ” وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” (لقمان: 7). وقال تعالى: “يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا” (الجاثية : 8). وقال تعالى: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ” (المنافقون: 5).
وإذا كان المتكبر يدفعه كبره ألا يسمع آيات الله، وإذا سمعها فلا ينظر فيها ولا يتدبرها، ولا ينقاد إلى ما تدعو إليه من الهدى، فإن ذلك يستتبع نتائجه في عقله وغيبه، وذلك بصرف الله إياه عن الإنتفاع بآياته سواء الكونية أو السمعية() . قال تعالى: ” سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ” (الأعراف : 146) .
4 ـ حب الدنيا والاغترار بها واتخاذها لهواً:
إن من أسباب الضلال شعور الإنسان إن هذه الحياة الدنيا مصادفة عمياء وأن الوجود بها ليس له هدف، قال سبحانه وتعالى رداً على من كان ذلك معتقدهم: ” أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ” (المؤمنون : 115) . وقال تعالى: ” كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ”(القيامة : 20 ـ 21) . وقال الله عز وجل: ” اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ” (إبراهيم : 2 ـ 3) . وقال تعالى: ” فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا” (النجم : 29) .
وقال تعالى: ” وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ” (يونس : 88) . وقال سبحانه وتعالى مسجلاً على الكافرين بسبب غرورهم بالدنيا: ” ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا” (الجاثية : 35) ,ثم إن حبهم لهذه الدنيا يدفعهم إلى الإنغماس في شهواتها ومنها إلى حد الترف الذي من طبيعته، أنه يفسد الفطرة، ويغلظ المشاعر، ويسد المنافذ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتستجيب وتستجيب() . فقال تعالى مبيناً أن المترفين اتبعوا ترفهم وكفروا بما أرسل به المرسلون: “فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ” (هود : 116) . وقال تعالى ذكره: ” وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ” (سبأ : 34)
5 ـ اتباع الهوى:
والمقصود بالهوى ميل النفس للشهوة() .لقد جرت سنة الله تعالى في الهداية والإضلال أن يكون أتباع الهوى سبباً من أسباب الضلال. قال تعالى: ” وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (القصص : 50) . وقال سبحانه:” وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ” (الأنعام: 119) . وقال سبحانه:” وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ” (ص: 26) . وقال عز وجل:” أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” (الجاثية: 23) .
والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حيث تترك الأصل الثابت وتتبع الهوى المتقلب، حين تتعبد هواها وتخضع له، وتجعله مصدراً لتصوراتها، وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها، وتقيمه إلهاً قاهراً لها مسؤولاً عليها، تتلقى إشارته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول، يرسم هذه الصورة ويعجب منها في استنكار شديد ” أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ” ؟ أفرأيت إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب، وهو يستحق من الله أن يضله، فلا يتداركه برحمة الهدى فما أبقى في قلبه مكاناً للهدى وهو يتعبد هواه المريض” وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ” على علم من الله باستحقاقه للضلالة، أو على علم منه بالحق لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلهاً يطاع، وهذا يقتضي إضلال الله له، والإملاء له عمياه ” وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً” فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور، وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى، وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعته للهوى، طاعة العباد والتسليم ” فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ” والهدى هدى، وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة، فذلك من شأن الله الذي لا يشاركه فيه أحد، حتى رسله المختارون، ” أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” ومن تذكر صحا وتنبه وتخلص من ربقة الهوى، وعاد إلى النهج الثابت الواضح، الذي لا يضل سالكوه() .
وهذه السنة سنة الله في إضلال من اتبع هواه تحققت في أقوام سابقة وستمضي دائماً في كل قوم يتبعون أهوائهم ويحيدون عن الحق() . قال تعالى:” فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ” (القصص: 44) . وقال تعالى:” وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى” (النازعات: 40 ـ 41) .
وقد حذر الله عز وجل نبيه داود عليه السلام من أن يؤثر هواه في قضائه بين الناس على الحق والعدل فيه فيكون نتيجة ذلك ميله عن طريق الله الذي جعله الله عز وجل لأهل الإيمان به، فيكون من الهالكين بضلاله عن سبيل الله، قال تعالى:” يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ” (ص: 26) .
ومن المواطن التي حذر الله عز وجل عباده من اتباع الهوى فيها ما جاء في قوله تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا” (النساء: 135) .
ـ وقال تعالى:” قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْعَن سَوَاء السَّبِيلِ” (المائدة: 77) .
وهكذا يتبين لنا بجلاء أهمية الهوى، وإن الوقوع في ذلك وقوع في الضلال وبالتالي الوقوع في الفساد الشامل للسماء والأرض ومن فيهم كما قال تعالى:” وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ” (المؤمنون: 71) .
فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة، وبالحق الواحد يدبر الكون كله فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة، ولو خضع الكون للأهواء العارضة والرغبات الطارئة لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس، وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى والحب والبغض والرغبة والرهبة والنشاط والخمول وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات والتأثرات، وبناء الكون وبما فيه الإنسان يحتاج إلى الثبات والاستقرار والاطراد على قاعدة ثابتة، ونهج مرسوم لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد .
__________________
المراجع:
1. علي محمد الصّلابيّ، الإيمان بالقدر، دار ابن كثير، بيروت، ص. ص152-145.
2. الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1415هـ، 9 / 60.
3. سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة: دار الشروق، ط 38، 1430ه، 2009م، 1/ 43.
4. محمد رشيد رضا، تفسير المنار (تفسير القرآن الكريم)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م، 10/ 648.
5. شريف الشيخ صالح أحمد الخطيب، السنن الإلهية في الحياة الإنسانية وأثر الإيمان بها في العقيدة والسلوك، الدار العثمانية، عمان. الأردن، الطبعة الأولى، 2004م، 1 / 157.