هل هناك علاقة عاطفية بين مكونات الوجود المحسوس وبين الإنسان؟ وهل يشعر المرء بتلك المشاعر التفاعلية؟
هل تترك مشاعر الحب والكره، والفرح والحزن، والأمل واليأس، والطاعة والمعصية، والحسنة والسيئة مَسْحَتَها على البيئة من حولنا؟
هل تتأثر الأزهار في بيتك بحالة الصفاء القلبي والهدوء النفسي التي تعيشها؟
أراك تَحنُّ إلى بيتك القديم، ومدينتك أو قريتك القديمة، في مصر، سوريا، العراق، فلسطين، المغرب، تونس، الجزائر، وغيرها، حيث ملاعب الصبا، ومراتع الشباب، وتشتاق إلى مسجدك الذي كنت تصلى فيه. هل تذكر أيام التبكير للصلاة والجلوس في زاوية من زواياه ذاكراً قارئاً متأملاً؟
إنها لأيام حَفَرَتْ في القلب معالمها، ونَقَشَتْ في العقل معانيها. هل يشتاق المكان إليك؟ هل يأنس بك؟ هل يفرح بقربك؟
وقفت يوما أمام شلال مائي صغير وقد أسَرَني صوت خريره، وقلت إنني سعيد بهذا الصوت فهل هو سعيد بوجودي؟ هل تشعر بي تلك الأشجار والزهور والجبال والوديان والأنهار؟ ما سر الراحة القلبية التي يجدها المرء في مكان دون غيره؟ كل هذه الخواطر جاءتني مرارا بيْد أنها ألحَّتْ عليَّ وأنا أزور قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضى الله عنه في إسطنبول. مَشْهدٌ مَهيبٌ حيث يتقاطر خَلْقٌ كثير على زيارته والصلاة في مسجده، ودون أن أسمع -سابقا- من أحدٍ عن حالةِ السكينةِ التي يجدها من يُصلى في مسجد أبي أيوب وجدت في نفسي رغبةً عارمةً في المكوث طويلاً، على خلاف مساجد أخرى لا تجدُ فيها هذا القَدْرَ من النَّسَمَات والرياحين، ثم قلت: إنها بَركة الصحابي الكبير الذي حمل روحه في سبيل الله وجَسَّدَ الهمَّة الكبيرة على الرغم من عمره، ونال ما تمنى، فقد حُمل جسده إلى أقرب منطقة إلى أرض القسطنطينية بناء على وصيته حينما خرج في جيش المسلمين المُيمم وجهه شطرها لنيل شرف الفتح الذي بشَّر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وحينما تم الفتح أمر السلطان محمد الفاتح بنقل رفاته إلى إسطنبول العامرة.
ظاهرة مُطَّردة
سألتُ يوماً بعض أساتذتنا قائلا: ما سر الروحانية التي نجدها في مساجد تركيا سيما القديمة؟ فأجابني أستاذنا د. أحمد الخليفة قائلا: إن المعماري التركي العظيم “سِنان” كان إذا أقْدَم على بناءِ مسجدٍ يدخل المعتكف شهراً كاملاً متعبداً لله تبارك وتعالى يلتمس منه الرضا والسند والعون، وكان يختار عُمَّاله من أهل الطاعة والاستقامة، ويمنعهم من حمل أية حجارة على غير طهارة ووضوء.. هنا زال العجب وعُرف السِّر وظهر السبب، لقد أُسس المسجد على التقوى من أول يوم، لهذا نجد هذه الهيبة والبهاء والجمال تُجللُ المكان وساحاتِه.
وأكد لي هذا المعنى شيخنا د. خالد حنفي منذ أيام حيث قال لي بأنه كان يصلى بأحد المساجد بإسطنبول وكان يشعر فيها بسكينة كبيرة وروحانية طاغية أكثر من غيره، فسأل عن تاريخ المسجد وما شهده من حلقات العلم، فوجد أن هذا المسجد تخرجت منه ألوف من الشباب المؤمن التقي الصالح، حيث كان كدار الأرقم بن أبي الأرقم، مدرسة في بناء الأجيال التي تعيد الأمة سيرتها الأولى.
أتَذَكر أن ألمانية غير مسلمة زارت بعض المساجد في اليوم المفتوح وهو يوم الوحدة الألمانية 3 أكتوبر من كل عام -حيث تفتح المساجد أبوابها للألمان- وقالت: لقد أردتُ زيارة مسجدٍ بعينه ولكنني أخطأت المكان ودخلت مسجداً آخر، ولكنني لم أشعر فيه براحة فعُدتُ حتى وصلت للمسجد المقصود وأحسست فيه ساعتها بشعور مختلف كأنه بيتي، لم أشعر نفسي غريبة عن المكان!
أتعلمون ما السبب الذي ظهر للمرأة آثاره؟
المسجد الأول الذي ذهبت إليه خطأً كان مزدحماً بالخلاف بين القائمين عليه. خلافٌ وشقاقٌ أذهب البركة منه، وهربت معها السكينة، ولم العَجَب وقد رُفعت ليلةُ القدر يوم خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ليخبر الناس عنها، فوجد اثنين وقد رفعا أصواتهما وتجادلا. والبَرَكة عدوها اختلاف القلوب، فإن اختلفتْ قلوبنا نُزِعتْ البَرَكة من حياتنا.
الكون مرآة لقلب المؤمن
يَظلم المرءُ نفسه عندما يظن أنه في هذا الكون وحده، وأنه يحتكر الإحساس والمشاعر النبيلة دون غيره من الكائنات، وفي لحظة يَشِفُّ فيها القلب ويِرِق ويتجلى فيتدلى من الحقائق الكبرى لهذا الوجود وإذا به يأنس ويطرب بالكون كله ويكتشف الصلة العميقة والغاية المشتركة بين وبينه السماء والأرض. {ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11). ولما أراد الله أن يُظهر للناس سلطانه وفضله السابغ على من يختارهم من عباده المصطفين الأخيار قصَّ علينا نبأ مَنْ جمع لهما بين النبوة والمُلك، فاجتمعت فيهما الدنيا والآخرة، حيث قمة السلطان والقوة، مع قمة العبودية لله رب العالمين. {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (النمل: 17).
مشهد ساحر يتجلى في حشد الوجود يردد آيات الله مع نبي الله داود عليه السلام، {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ”(10)، ولك أن تتخيل بقلبك حالة الحضور الجماعي وزوال الحُجُب فإذا الجبال والطير والماء والمخلوقات في حلقة واحدة مع داود عليه السلام. “إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} (سورة ص: 19.
حنين الجماد للمؤمن
وقف الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل أُحد فقال: هذا جبل يحبنا ويحبه. وقد سبحت الحصى في كف الرسول صلى الله عليه وسلم وفي يد أبي وعمر وعثمان وعلي رضى الله فهي دائمة التسبيح لكنَّ الله تعالى يُرِيَنا بعض عجائب مخلوقاته ليزداد الذين آمنوا إيمانا. وهل ينسى أحد يوما ضجَّ الجذع بالبكاء حينما فارقه الرسول صلى الله عليه وسلم وما سكن حتى ضمه وهدَّأ من روعه. قلت: هنيئا لك أيها الجذع أن تَشرفْتَ بملامسة جسد النبي الشريف، وحق لك الحزن والبكاء. كلما صَفَتْ النفس ورَقَّت راقت لها صحبة الأكوان ووجدت أُنْسَها وبهجتها معها.
هذا رجل يرى أنه يصلى ويسجد سجدة التلاوة وإذا بالشجرة من خلفه تسجد وتردد دعاء وثناء صار سنة والعجيب ليس في دعاء الشجرة إنما في شفافية قلب ذلك الرجل، ولندع التعليق لشيخنا محمد الغزالي في كتابه “فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء” يروي ابن عباس رضي الله عنهما: جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة٬ فسجدتُ فسجدتْ الشجرة لسجودي! فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها أجرا، وحُط عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه الصلاة والسلام!، قال ابن عباس: سمعت رسول الله قرأ سجدة، ثم سجد، فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة!
يقول الشيخ في تعليقه: “هذه الطرفة، كما قلت، عميقة الدلالة فهي تدل على أن صاحب الرؤيا أحسن الاستفادة من تعاليم الإسلام حتى نضح ذلك على سريرته وهو نائم. وهي تدل كذلك على أن فؤاد الرسول المربي موار بعاطفة من حب الله يهيجها أي شيء٬ فقد التقط الدعوات المنسوبة إلى الشجرة، وأخذ يرددها هو في سجود خاشع لرب العالمين. وصلة الأنبياء بالله تتحرك للملابسات المثيرة. ومحمد عليه الصلاة والسلام تربطه بنور السموات والأرض روابط فوق الحصر. وقد كان جهده أن يجعل البيئة كلها من حوله عابدة ساجدة ذاكرة شاكرة” باختصار يسير.
وللكعبة المشرفة جمال آسِر
ماذا في الكعبة المشرفة من جمال يأخذ بالألباب، وجلال ومهابة عجيبة وهى من حجارة لا من ذهب أو من فضة؟ ما سر الدموع التي تنهمر بمجرد وقوع العيون عليها لأول مرة؟ لماذا تشعر عندما تطوف طواف الوداع بحسرة في قلبك لفراقها، لم تجده عند فراق الوالد وما ولد؟ لعل بعض الأسرار تنبيك عنها أنْفَاسُ قوافلِ الأنبياءِ والمرسلين الذين اطَّوفوا بها وسكبوا هنالك العَبَرات، ولَهَجَت ألسنتهم بالذكر والدعاء لفاطر الأرض والسموات، إنها أثر دموع الأولياء والصالحين الذين أناخوا رحالهم في رحاب البيت الحرام ولاذوا هناك بجناب الله جلَّ في علاه، وهى أيضا سر من أسرار عباد الله الذين أتوا من كل فج عميق يرجون رحمته ويخافون سوء الحساب. وأثر دعاء الملايين القائلين في لهفةٍ وتأميل: “اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما وبِرا”.
ليتنا نعي أن مكونات الوجود من حولنا لها إدراك وشعور، تفرح وتحزن، تأنس وتستوحش، ونحن وإياك نتشاطر غاية الخلق، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}؛ فلنترك في كل مكان نرتحل إليه أثرا تأنس له الجوارح، وأثرا تلمسه القلوب ويَسري في الأرواح.
إن شعور المسلم بأن الكون وما فيه من مخلوقات متنوعة خلقها الله لحكمة وغاية، وهى عابدة لله تعالى، من شأن هذا التأمل والتدبر أن يصنع وعيا ويشكل ثقافة تصل الإنسان بالبيئة من حوله في علاقة تصالحية راقية ومسؤولية عن كل ما يحيط به، فينطلق في الكون مُصلحا منتجا مُعَمرا رفيقا ودودا. عندها ستزول كثير من المشكلات التي تهدد البيئة ومستقبل الأجيال القادمة.
_____________________________________
المصدر: “مدونات الجزيرة” (بتصرف يسير في العنوان).