الكاتب: أحمد التلاوي
نقف كُلَّ يومٍ في عصرنا الحالي على تطورات كثيرة متلاحقة، تشمل مختلف مجالات العمل الإنساني؛ العلوم والتقنية الحديثة، والسياسة والاقتصاد والاجتماع، والفنون والآداب.
والتربية ليست بدعًا من هذه التطورات التي ساهم العلم الحديث وعصر الثورة الرقمية التي نعيشها في تسريع وتيرتها، مثل أي مجالٍ آخر.
وفي الواقع؛ فإنَّ التربية هي واحدةٌ من المجالات التي كانت الأكثر تأثُّرًا مِن غيرها من مجالات النشاط الإنساني بالتطور الكبير الحاصل في الوسائط الرقمية، سواء لجهة تأثير هذه الوسائط على المستوى الأخلاقي والسلوكي للنشء الجديد، أو فيما يتعلق بطرائق وأساليب التعليم والتربية بالمعنى القريب.
في الإطار الثاني، شهدت الوسائل التعليمية الكثير من النهضة بفعل التطورات التي أتى بها عصر الرقميات، وبات من المعتاد أن نسمع عن وجود أدوات من العصر الرقمي، مثل “التابلت”، تُستخدَم في العملية التعليمية والتربوية في المدارس حتى في البلدان الأقل تطوُّرًا، سواء بديلاً عن الكتاب، أو كوسيلة لأداء الاختبارات.
بل إنَّنا في ظل ظروف وباء “كوفيد-19″، رأينا كيف أنَّ الكثير من دول العالم الثالث، ومن بينها بلداننا العربية، بدأت في تفعيل آليات التعليم عن بُعد من خلال الإنترنت ووسائط الاتصال وحفظ البيانات الحديثة، للمواءمة بين اعتبارات ضرورة أنْ تسير الحياة والنشاطات البشرية المختلفة، ومن بينها قطاع التعليم، بوتيرتها المعتادة، وبين اعتبارات منع فيروس “كورونا المستجد” من الانتشارـ ومحاصرته في مختلف أماكن التجمُّعات البشرية.
إلا أنَّنا، وبفحص مُدَقَّق في طرائق التعليم والتربية بشكل عام في مجتمعاتنا العربية؛ فإنَّنا نقف أمام تصورات لا تزال تقليدية مع توظيف التقنية الحديثة.
فبدلاً من الورقة والقلم والكتاب الورقي؛ فإنَّ التلقين والحفظ والاستظهار، يتم بواسطة الرقميات، ولا يتم الاهتمام بجذر منطق أو جوهر ثورة المعلومات والاتصالات وما تصبو إليه في صدد تطوير طرائق التفكير والحياة الإنسانية نحو أفقٍ الغد.
وهذه الإشكالية نابعة من مشكلة أكبر، مفاهيمية بشكل عام في طرائق تفكيرنا وتصوراتنا للأمور، وهي الوقوف عند اللحظة، فنحن نجدها في مختلف المجالات، بما فيها التنمية.
فمثلاً من بين أهم الأزمات القائمة في كثير من بلداننا العربية هو أنَّ تخطيط مشروعات المرافق، مثل مياه الشرب والصرف الصحي والكهرباء، كان يتم التخطيط لها وفق احتياجات الحاضر، بينما الصواب هو أنْ يتم التخطيط لها بناءً على رؤية مستقبلية لما سوف يكون عليه عدد السكان والتوسُّع العمراني.
وهذا ما نجد عكسه في المجتمعات المتطورة في المجال العلمي، والتي أحرزت تقدُّمًا في المجالات الحضارية المختلفة، مثل النظم الاجتماعية والسياسية والتشريعية وغيرها.
ففي بلدٍ صناعيٍّ متقدِّم مثل الولايات المتحدة، يمكننا أنْ نجد سدودًا ومحطات كهرباء صار لها مائة عام، لأنَّها تم تصميمها وتنفيذها وفق نظرة مستقبلية على الاحتياجات، بينما في عالمنا العربي؛ غالب هذه المنشآت حديثة، لأنَّه يتم الاستغناء عن القديم كل فترة وإقامة غيرها يراعي الاحتياجات المُسْتَجَدَّة، بسبب أنَّ التخطيط لم يتم بناء على رؤية مستقبلية.
في هذا الإطار؛ فإنَّه بالتأمُّل في شاشات قنوات فضائية دولية في هذه الدول، مثل قناة “ألمانيا اليوم” (DW)، نقف أمام برامج شديدة التقدُّمية في نظرتها إلى ما ينبغي أنْ تكون عليه رسالة الإعلام – الذي هو أداة من أدوات التربية والتنشئة بالمعنى الشامل العام – في عصرنا الحالي، وهي أنْ يقودنا إلى الغد.
فنجد برامج على غرار “المستقبل الآن” و”العولمة 3000″، وعلى “ناشيونال جيوجرافيك”، نجد برامج بذات المنطق، مثل “العام مليون”.
فهذه القنوات، والمنظومة التنفيذية التي تقف خلفها، والمنبثقة من طبيعة مجتمعها، تنطلق من الفهم الحقيقي لرسالة العلم، بكل اتجاهاتها؛ حيث إنَّ الهدف الحقيقي هو أنْ يقودنا التطور إلى الغد.
وبالنَّظر إلى ما يقدمونه من مواد؛ لا نجدهم يتكلمون في السياق النظري عن “نسبية المستقبل” أو قوانين الحركة لنيوتن وما قد يطرأ عليها من متغيِّرات، أو اختلافها في قطاعات أخرى من الكون الفسيح الذي نعيش فيه، ولكنهم يتكلمون في صُلب الحياة اليومية للإنسان ورفاهيته، ويمدُّون في ذلك خطًّا تطبيقيًّا مع عالم اليوم.
فنجد الكثير عن التطور المُنتَظَر في أساليب الزراعة أو بناء وتشييد المساكن، ثم نجدهم ينطلقون من تجارب تجري بالفعل، أو يُقدِّمون أفكارًا في المجال التطبيقي، يمكن العمل عليها في زمننا هذا، أيْ أنَّ مفرداتها متوافرة بالفعل في عصرنا الحالي، بحيث لا يكون الحديث عبارة عن ضربٍ من ضروب الأحلام والخيال العلمي الرومانسي، ولكنَّه يُقدَّم في قالبٍ جادٍّ تطبيقي يعمل وفق منظور التقدُّم إلى الغد من خلال ما هو مُتاحٍ اليوم، وهو ما يعني بالضبط شعار “المستقبل الآن” الذي تطرحه “ألمانيا اليوم”..
وهذا المبدأ قائمٌ في مجالات العلوم المختلفة، وليس في العلوم المادية، أي التقنية، فحسب. فمثلاً، في العلوم السياسية؛ فإنَّه من المعروف أنَّ الهدف الأساسي بل والغاية الرئيسية لأيِّ نظامٍ سياسي، هو أنْ يضمن أنْ يكون الغد أكثر أمنًا ورفاهةً من اليوم، بالنسبة لِشَعْبِه.
فقضية المستقبليات هذه، حاكمةٌ لكل منظورات الأمور في البلدان المتقدمة، وفي مجال التربية والتعليم؛ فإنَّ ذلك يعني أنْ تقود تطورات العلم الحديث، الأجيال الجديدة إلى التفكير والعمل على تطوير ما ينبغي أنْ نجده في الغد.
ولا يقف هذا التصوُّر عند الأمور التي لها أهميتها الكبرى أو مركزية في أذهاننا، مثل علوم الفضاء والطيران والفلك وهذه الأشياء، وإنما تمتد حتى الأشياء الصغيرة البسيطة التي تفيدنا في حياتنا اليومية.
فمن المعتاد أنْ نجد في صفحات الأخبار ومنصات التواصل الاجتماعي الغربية أنَّ أحد النشء في سِنِّ المراهقة، أو طُلَّاب مدرسة من المدارس، قد استطاع/ أو استطاعوا ابتكار آلة تُسَهِّل من مهمة ربات البيوت في مجال النظافة، أو تُحسِّن من قدرة كبار السِّن على السير في الشوارع والصعود والنزول من على الأرصفة.
هذا هو المبدأ الأول لما ذكرناه في عنوان هذا الحديث؛ عن التربية المستقبلية لأبنائنا؛ أيْ أنْ نُعَلِّمَهُم ونُرَبِّيَهُم على أنَّ الأساس من العملية التعليمية والتربوية، وتطوير أفكارهم ومداركهم، هو ليس اللحظة الراهنة، بل المستقبل.
وهو أمرٌ من السهل إقناعهم به؛ حيث إنَّ رعاية الأطفال والناشئة إنَّما تهدف لتأسيس الجيل الذي سوف يكون هو القائد والأساس في خدمة المجتمع والوطن مستقبلاً، وبالتالي؛ فإنَّه من البديهي أنْ تكون تنشئتُهم مبنيَّةً على رؤية تراعي أنْ يكونوا عندما يتولُّون المسؤولية مستقبلاً، قد تأسَّسوا بشكلٍ ملائم لما سوف يكون عليه المستقبل وفق مرئيات الحاضر.
وهنا تبرز أهمية التأسيس في سنٍّ مبكرةٍ، مع عدم الجور على حقوق الطفولة في اللعب والانطلاق، وكذلك تبرز أهمية علوم المستقبليات والاستشراف، والتي باتت الآن هي من أهم مجالات البحث وأدوات النهضة في الغرب والدول المتقدمة.
المصدر: بصائر تربوية.