تحتقل الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها يوم الجمعة الأخيرة في شهر رمضان المبارك من كل عام بيوم “القدس العالمي”، وتتيح دول العالم بما فيها دول الغرب الاستعماري فرص عقد الندوات واللقاءات والمهرجانات والتظاهرات إلا في العالم العربي التعيس، فإن عديدا من حكوماته تراعي مشاعر العدو الصهيوني، وتقمع كل نشاط يهدف إلى إشراك الجمهور في الاحتفال بهذا اليوم كي ينسى الناس أن أولى القبلتين وثالث الحرمين بيد الغزاة النازيين اليهود، الذين يحتفلون بهذا اليوم على طريقتهم ويسمونه “يوم توحيد أورشليم”، وتردّد الإذاعات العالمية والإعلام الدولي مصطلح (توحيد القدس)، ليكون موافقة صريحة على احتلالها، ويبدو أن بعض الأشاوس والنشامى من بني جلدتنا يرون أن القدس لا تمثل لهم الكرامة والعزة، والإسراء والمعراج، وأولى القبلتين وثالث الحرمين، فراحوا يطلقون أبواقهم ليقللوا من مكانتها، وليزعم بعضهم أن المسجد الأقصى في الطائف!
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل امتد للتقرب إلى الغزاة القتلة مباشرة، فقد نشر في 21/5/2020 أن سلطات الاحتلال اتصلت سراً بدولة عربية، بهدف المساعدة في إعادة مجموعة من (الصهاينة) العالقين في دولة عربية أخرى، ونظرا للعلاقات الجيدة التي تربط الدول الثلاث، فقد وافقت الدولة العربية على الامتثال لطلب الاحتلال وأرسلت طائرة ملكية تمتاز بطلاء ذهبي ومقاعد فاخرة ومرحاض خاص، وهي تتبع لأحد الأمراء، كي تجلب الصهاينة العالقين. حاولت الدولة العربية التكتم على الخبر لكنها فشلت في ذلك، حيث إن أحد الصهاينة الذين كانوا على متن الطائرة سرّب الخبر موثقا بالصوت والصورة بعد انتهاء عملية الإنقاذ!
في الوقت ذاته كانت أخبار قتل بعض الفلسطينيين الأبرياء تترى من الوطن المغتصب، مع أخبار الأسرى الذين يعانون سوء العذاب الصهيوني في سجون الاحتلال، مع إعلان قادة الكيان الغاصب نجاحهم في التوافق الحكومي لضم الضفة والأغوار رسميا للكيان الغاصب وتطبيق القانون اليهودي على الضحايا، مع ترديد مقولة الإرهابي الهالك مناحم بيجين الكاذبة حين سئل عن ضم الجولان. قال: لا يمكن أن تضم أرض غيرك، أنت تضم أرضك!
السؤال الذي يتردد من خلال موضوع التطبيع مع العدو: هل نحن قادرون على مواجهته في ظل الظروف الراهنة التي تهرول فيها حكومات عربية وربما إسلامية للتطبيع مع العدو دون مقابل؟
إن الظروف الراهنة للأمة معلومة للعالم كله، ويمكن تلخصيها فيما يلي:
- صراعات داخل الأمة، وبين دولها، سافرة ومضمرة، دامية وغير دامية، دون أسباب مقنعة، اللهم إلا التنافس السلبي والمكايدات السياسية، والرغبة في فرض الذات والهيمنة، ومحاربة الإسلام وتشويهه، ويُعْزى ذلك إلى الأنانية والجهل بمعانيه السياسية والتاريخية، وتحريضات أعداء الأمة وهيمنتهم على عديد من أصحاب القرار.
- الضعف العام في السياق الحضاري، فلا شورى ولا تخطيط ولا إنتاج إلا قليلا، ولا مشاركة في صنع الحضارة الإنسانية، والاكتفاء بالاقتصاد الريعي المعتمد على ما تهبه السماء أو الضرائب التي تعتصر المواطن البسيط، أو مدّ اليد للاقتراض من أعداء الأمة بفوائد باهظة، مع هزال منظومات التعليم والصحة والإعلام والثقافة، وتراجع الوعي الإسلامي والسياسي والمستقبلي.
- أمة لا تنتج طعامها ولا تصنع دواءها ولا تملك سلاحها ، فهي صفر في الميزان الدولي، حيث يطمع فيها الكبير والصغير، ويحتقرها العالم لأنها لا تملك إرادة العمل والحركة. فصارت بالتالي قصعة الأمم، كما تنبأ البشير النذير- صلى الله عليه وسلم.
لا بد من وقفة قصيرة هنا:
فمن المؤكد أن السلاح جزء مهم في الدفاع عن النفس، ولكن الأهم من يحركه ويستخدمه استخداما جيدا، أي الإنسان، فهذا الإنسان إن لم يكن حرا قوي النفس يشعر بكرامته ووجوده، وأنه شريك في الوطن الذي يحيا فيه، وقبل ذلك يعيش مسلحا بالإيمان والعقيدة وحب الشهادة، فإنه لا ينجح في مهمة الدفاع عن هذا الوطن، بل قد يذهب ضحية مجانية لمن يبعث به إلى ميدان القتال كما حدث في 67، وكم هزمت إمبراطوريات ضخمة لأن مواطنها لم يشعر بذاته، مع تفوّق سلاحها. الإعداد ينبغي أن يكون شاملا وكاملا: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ”، (الأنفال: 60)، ولا ننسى ضرورة جمع المعلومات وأهميتها، فهي تضيف قوة إلى قوة وتقلل من الخسائر، وتحسم المعارك في وقت قياسي، وعدوّنا فائق في هذا المجال (الموساد، الشباك، أمان). بينما بعض دولنا يهتم بجمع المعلومات عن المواطنين حرصا على سلامة النظام.
إن الأمة العربية تملك اليوم مخازن ضخمة من الأسلحة اشترتها بتريليونات الدولارات من أميركا والغرب وروسيا والصين وكوريا الشمالية وغيرها، وللأسف الشديد فإنها لا تصلح إلا لقتل الأشقاء أو الشعوب نفسها! أو كما قال “مهاتير” محمد رئيس ماليزيا السابق لا تصلح إلا للاستعراض في المناسبات الوطنية، وقد فسّر ذلك بأن طائرات الفانتوم (إف 16) التي اشترتها بلاده لا يمكنها ضرب هدف خارج بلاده، لأنها منزوعة الشيفرة أو الكمبيوتر الذي يدقق التصويب إلى الهدف، وهو ما يحتاج إلى الاستعانة بالخبراء الأميركيين أو الأجانب وإذنهم، وهذا الإذن غالبا لا يأتي، لأنهم لا يسمحون بتجاوز الخطوط الحمراء التي يرسمونها! لقد حرّمت روسيا مثلا على النظام السوري استخدام صواريخ إس300 ضد الطيران الصهيوني الذي يتنزه في الأجواء السورية وفوق دمشق بالذات ويضرب كما يحبّ. إن الدول الكبرى العدوانية في الغرب والشرق لم تعد تخشى صفقات السلاح الضخمة إلى الدول العربية، لأنها عاطلة عن العمل الفعّال لصالح الأمة، وإن كانت تمزّق الشعوب والأشقاء مدنيين وعسكريين، وتقهرهم، وتعيدهم إلى حظيرة الاستبداد والعبودية، الأسلحة الوحيدة التي تباع في نسختها الأولى ودون قيود هي أسلحة ضرب المظاهرات والاعتصامات مثل قنابل الغاز وبنادق القنص وسيارات الاقتحام وأجهزة التنصت على المواطنين.
هل معنى ذلك أن الأمة لا تستطيع أن تفعل شيئا في مواجهة العدو الصهيوني غير التطبيع الذي تتبناه بعض الجهات والقوى؟
تستطيع أن تفعل إذا استبانوا الرشد، وتستطيع أن تؤلم العدو مثلما يؤلمنا ويمسح بكرامتنا الأرض. فقد كانت هناك تجربة رائعة في حرب رمضان. كان السلاح محدودا، والعدو يفوقنا تسليحا وتخطيطا وتدريبا، ولكننا في حدود إمكاناتنا العسكرية، التي تم تطويرها للاستخدام الأمثل، مع إعداد الجندي روحيا ومعنويا وتدريبيا، مع التخطيط الجيّد بقيادة عسكريين محترفين لا تشغلهم السياسة وأضواؤها، استطعنا أن نثبت للعالم أننا نقدر ونستطيع بعون الله.
وأتصوّر لو أن الحكومات العربية التي تقاتل شعوبها أو أشقاءها وظّفت فقط ما لديها من ترسانة الصواريخ الضخمة (قصيرة المدي أو المتوسطة أو الطويلة) بالتناوب في الرد على العدوان الصهيوني، لحققت نجاحا كبيرا في إيقاف عجلة اقتصاد الاحتلال، وهروب مئات الألوف من الغزاة وعودتهم من حيث أتوا، ثم إصغاء النازيين الغزاة لما يقوله العرب في المفاوضات العبثية المزمنة!
كانت هناك الهيئة العربية للتصنيع تضم بعض الدول العربية، وأوشكت أن تحقق نجاحا كبيرا في إنتاج الأسلحة الخفيفة والذخائر وبعض الأسلحة المتوسطة، وكان يتوقع لها أن تنمو وتنتج أسلحة ثقيلة وطائرات مقاتلة، ولكن بعض القوم ما كادوا يرون تداعيات اتفاقيات الإذعان في كامب ديفيد، حتى وجدوا فرصتهم لينسحبوا من الهيئة، ويكتبوا شهادة وفاتها. وكأنهم كانوا ينتظرون على أحرّ من الجمر ليتحللوا من أي التزام ببناء القوة العربية الإسلامية، ولينفقوا المليارات على أسلحة لا تحقق الهدف، ولكنها تملأ خزائن العالم الصليبي المعادي للإسلام والمسلمين بآلاف المليارات من الدولارات.
لقد رأينا عربا يقتتلون فيما بينهم. داخل الشعب الواحد تقتل الحكومة شعبها وتدمر بيوته ومساجده ومشافيه ومدارسة، ووصل بعضيها إلى التطهير العرقي والمذهبي والطائفي، ورأينا استخداما مباشرا لأقوى الأسلحة في قصف الجموع الشعبية الرافضة للاستبداد، بل إن بعض الأنظمة اخترع أنواعا من المتفجرات يبدو شديد التدمير يسمونه “البراميل المتفجرة” تلقيها الطائرات على المدنيين، فضلا عن استخدام الأسلحة الكيماوية المحرّمة دوليا ضد المواطنين الآمنين، بينما الأرض المحتلة لم يُسمع فيها صوتُ رصاصة واحدة بقصد التحرير أو الرد على اعتداء العدو.
عندما يعتدي العدو على مواقع أو أماكن عربية يخرج أصحابها بالقول المكرّر المعاد منذ عشرات السنين: سنرد في المكان والزمان المناسبين، ولكنهم بالنسبة لمواجهة شعوبهم أوـ أشقائهم لا يضيعون وقتا ،بل يردون في التوّ واللحظة بأقسى الضربات، ولا قيمة عندهم للبشر أو الحجر، ثم تأمل مدى الرقة واللين في لغة الحوار مع العدو، والغلظة والخشونة مع أبناء الوطن والأشقاء، إنهم يقدمون المبادرات والتنازلات، ويستجيبون لكل الوساطات الأجنبية، ويرفضون الوساطات الأخوية، ويتحايلون على الشعوب العربية بصيغ زئبقية للقبول بما يقوله العدو، ولكنهم مع شعوبهم وأشقائهم لا يبادرون ولا يتنازلون ولا يرضون بغير حكمهم الظالم بديلا.
وتعجب حين ترى العدو- مؤمنا، أو علمانيا، أو ملحدا- يطرح على مائدة المفاوضات التوراة ومقولاتها، ويرتكز على ما فيها ليحسم مواقف ويفرض مطالب، وينشئ أوضاعا، ويفاخر رئيس وزرائهم الحالي بأن وزارته تضم أكبر عدد من المتديّنين المتشددين، وأنه يحقق مطالبهم التوراتية سياسيا بضم الأراضي الفلسلطينيةاستيطانها، بينما الأشاوس والنشامى يخجلون من الإسلام والقرآن، ولا يطرح أحدهم آية قرآنية واحدة تعضد موقفه، وإن طرح آية ففي غير موضعها ومناسبتها (مثال: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) هل جنح العدو للسلام حقا؟ ويذهب بعضهم بعيدا فيرى التمسك بالإسلام تطرفا وتشددا وإرهابا، ناهيك عما يمارسه بعضهم من مطاردة للإسلام والمسلمين تحت دعاوى غريبة وعجيبة، ووصم كل من يرفع راية التصور الإسلامي بالإرهاب!
لاريب أن التطبيع مع عدوّ لا يخفي أسلوبه النازي القائم على العنصرية والتوسع، ويضع في الكنيست لوحة تقول بأن كيانه الغاصب من النيل إلى الفرات، ويجاهر بلصوصيته للأراضي تحت مسمى الضم والاستيطان؛ يجعل من يعنيهم الأمر-فيما يفترض- يراجعون موقفهم من الإسلام، ومعطياته العظيمة، ويكفّون عن مطاردة المسلمين، فهم يمثلون ورقة دعم في المفاوضات إذا أحسن استخدامها، أما في القتال فلاريب أن من يحب الشهادة وشرابها سيحقق للأمة والدين نصرا مؤزرا بفضل الله.
الأمة تحتاج إلى تصالح وتوافق داخلي، ونظام يقوم على الشورى والعدل والحرية، والتنافس السلمي لخدمة الناس. وطيّ صفحات الاستبداد والقمع والقهر وإذلال البشر والظلم المقيت.
وفي كل الأحوال فإن المواجهة خسائرها أقل من الاستسلام والتطبيع والبكاء على عتبات مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة وسفارات الذئاب. المواجهة واجب ديني وخلقي وإنساني ،والاستسلام والتطبيع جريمة وعار وهوان!
المواجهة تُسقط التطبيع والخذلان وهيمنة العدو! والله المستعان.