أطلقت عليه فرنسا “متحف الإنسان” أو “متحف التاريخ الطبيعي”، وجمعت فيه 18 ألف جمجمة للثوار المسلمين الذين قطَعت رؤوسهم.
وكانت تلك الجماجم تزيّن قصور حكام فرنسا، ومن أهمها قصر الإمبراطور نابليون الثالث الذي شيده بالأموال التي نهبها الجيش الفرنسي من الجزائر، ووضع رؤوس الثوار الجزائريين الذين حاربوا مع الأمير عبد القادر الجزائري في مدخله زينة يتفاخر بها على ملوك أوروبا.
كما استخدم قادة الجيش الفرنسي جماجم قادة المقاومة الجزائرية لتزيين قصورهم كأدلة على الانتصارات التي حققوها. ورغم ادّعاء فرنسا العلمانية فإن المشاعر المسيحية كان لها دورها في تشكيل ظاهرة القسوة والوحشية في قطع الرؤوس والتمثيل بالجثث، والتباهي بتزيين القصور بجماجم المسلمين.
العنصرية الفرنسية
لكن لماذا أُنشئ هذا المتحف؟ ولماذا أطلق عليه متحف الإنسان؟
في عام 1937 قام عالم فرنسي يدعى بول ريفييه، وهو متخصص في الأنثروبولوجيا، بإنشاء هذا المتحف، وجمع الجماجم من قصور الملوك والقادة الفرنسيين، واختار لهذا المتحف موقعا متميزا بالقرب من برج إيفل.. ومن الواضح أنه حصل على دعم كبير من الحكومة الفرنسية.
الهدف من تجميعها بهذا المتحف إثبات أن العنصر الفرنسي هو الأرقى والأفضل ومن ثمّ له الحق في أن يحكم العالم ويحصل على كل الثروات
وسوّغ بول ريفييه إنشاء المتحف بأنه يهدف إلى إثبات أن العنصر الأوروبي هو أصل البشرية، ودراسة تطور الكائن البشري.
فإذا كان هدف القادة الفرنسيين من تجميع تلك الجماجم في قصورهم هو التفاخر بما حققوه من انتصارات، فإن الهدف من تجميعها في هذا المتحف هو إثبات أن العنصر الفرنسي هو الأرقى والأفضل لأنه تطور على نحو أسرع من الأجناس الأخرى، ومن ثمّ فإن له الحق في أن يحكم العالم، وأن يحصل على كل الثروات.. وتلك هي الفكرة التي قامت عليها النازية التي ما زالت تحكم التفكير الأوروبي والأميركي حتى الآن.
لذلك تتمسك الجامعات الأوروبية والأميركية بتدريس نظرية دارون “النشوء والارتقاء”، إذ تقوم عليها رؤية أوروبا وأميركا للعلاقة مع الشعوب الأخرى.
وذلك يعني أن هذا المتحف دليل على جريمة عنصرية ضد الإنسانية، وأنه وسيلة لتسويغ الاستعمار والسيطرة الغربية.. كما يفسر ذلك تعامل أميركا وأوروبا بمعايير مزدوجة مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، إذ يتم التعامل مع الشعوب غير الغربية على أنها غير مؤهلة للديمقراطية.. وهذا يشكل استمرارية لحالة الاستكبار والاستعلاء التي قام عليها الفكر الاستعماري.
ولذلك ينبغي أن تعي شعوبنا الحقائق، وأن يقوم الباحثون بإعادة كتابة التاريخ الاستعماري، لتوضيح تاريخ تعامل أوروبا مع الشعوب.. كما ينبغي أن يكفّ المثقفون المتغربون عن الدعاية لفرنسا ومشروع التنوير الأوروبي الذي يتضح كل يوم أنه كان العامل الرئيس في فرض الضعف والتخلف على الشعوب.
إهانة لكرامتنا!
إن هذا المتحف يجسّد إهانة لكرامتنا؛ فهو يضم جماجم أبطالنا الذين تفخر أمتنا بمقاومتهم للاحتلال الفرنسي في الجزائر، وكان منهم قادة جيش الأمير عبد القادر الجزائري الذي قاوم الاحتلال الفرنسي أكثر من 15 عاما، واستطاع أن يقهر فرنسا ويهزمها في كثير من المعارك، حتى اضطرت فرنسا إلى الاستغاثة بالدول الأوروبية باسم المسيحية، وجمعت كتائب الجيوش الأوروبية بأسلحتها المتقدمة، وقامت بإحراق القرى الجزائرية حتى صادف وجود الأمير عبد القادر الجزائري في إحدى القرى التي تعرضت للحرق، فنجح الجيش الفرنسي في أسره ونفيه، وقطع رؤوس ضباط جيشه ليزيّن بها الإمبراطور نابليون الثالث مدخل قصره.
500 ثائر
ولقد تمكن عالم جزائري هو علي فريد بلقاضي من تحديد 500 جمجمة لثوار جزائريين، منهم جمجمة الشيخ بوزيان الذي تولى قيادة ثوار الجزائر بعد الأمير عبد القادر الجزائري عام 1849، لكن الجيش الفرنسي استخدم قوته الغاشمة في القضاء على ثورته كي لا يتطلع شعب الجزائر إلى تكرار تجربة الأمير عبد القادر.
الجماجم التي تحتفظ بها فرنسا في متحف الإنسان هي رؤوس قادة المقاومة الذين تفخر الأمة الإسلامية بكفاحهم وبطولاتهم .
وحاصر الجيش الفرنسي القبائل التي كان يقودها بوزيان في واحة، وقطعوا أكثر من 10 آلاف نخلة، وأعدموا المئات من النساء والأطفال بقطع رؤوسهم، وعلقوا جماجم الشيخ بوزيان وابنه والشيخ موسى الدرقاوي على أبواب بسكرة بهدف نشر الرعب بين الجزائريين، وذلك قبل أن يحملوا تلك الجماجم إلى باريس كدليل على انتصارهم الذي لم يتوقف عند هذا الحد، فقد أحرقوا من هربوا إلى الجبال، أو قتلوهم بدخان الحرائق التي أشعلوها في المنطقة.
وقد تفاخر الجنرال إميل هيربيون قائد الحملة الفرنسية بأنه قتل كل السكان في منطقة بسكرة، ولم يتمكن من النجاة سوى رجل أعمى وعدد قليل من النساء.
وكان قطع الرؤوس وسيلة للانتقام والإرهاب، فالشيخ بوزيان قُطع رأسه بعد إعدامه بالرصاص، بعد ما أُعدم ابنه الذي كان يبلغ من العمر 15 عاما أمامه.
وهناك الكثير من القبائل العربية الجزائرية التي أبادها الجيش الفرنسي مثل بني رياح.. وهذا يؤكد أن الجيش الفرنسي كان يستهدف القيام بعملية تطهير عرقي، وقد أحرق القرى والجبال لتحقيق هذا الهدف.
القادة فقط
وهذا يعني أن الجيش الفرنسي كان يرسل رؤوس القادة فقط إلى باريس للتفاخر، وأن الجماجم التي تحتفظ بها فرنسا في متحف الإنسان هي رؤوس قادة المقاومة الذين تفخر الأمة الإسلامية بكفاحهم وبطولاتهم .
لكن هناك أيضا رؤوس ثوار من بلاد أخرى، فعلى سبيل المثال قامت فرنسا بقطع رؤوس 400 من العلماء المسلمين في تشاد يوم 15 نوفمبر 1917 بالسواطير بعد أن دعتهم إلى مؤتمر للتوصل إلى اتفاق لإدارة المنطقة، ثم غدرت بهم وأسرتهم.
وكان الهدف من ذبح هؤلاء العلماء فتح المجال للبعثات التبشيرية، وقد تفاخر الفرنسيون بهذه المذبحة.
وهناك الكثير من المذابح التي ارتكبتها فرنسا ضد المسلمين في أفريقيا، ومن المؤكد أن المتحف يضم الكثير منها.
جمجمة سليمان الحلبي
وفي هذا المتحف توجد جمجمة الشهيد البطل سليمان الحلبي الذي تمكن من قتل كليبر -الذي تولى قيادة الحملة الفرنسية بعد هرب نابليون من مصر- بعد أن دكّ منطقة الأزهر بمدافعه وقتل الكثير من العلماء والطلاب.
هذه الرؤوس دليل على أن الأمة ترفض الخضوع للاستعمار، وأنها كانت دائما قادرة على المقاومة والتحدي وتحقيق الانتصارات
وقام الفرنسيون الذين يدّعون أنهم جاؤوا ليمدّنوا الشعوب المتخلفة بإعدام سليمان الحلبي باستخدام الخازوق، وهو أكثر وسائل الإعدام وحشية وقسوة.. ثم نقلوا جمجمته التي تنقلت بين قصور أباطرة فرنسا حتى استقرت في هذا المتحف، ولم تجد حتى الآن من يطالب باستعادتها لدفنها في تراب مصر التي دافع عنها وضحّى بحياته من أجل تحريرها.
مرحلة جديدة من الكفاح
إن هذا المتحف يوضح أن البشرية كلها لا بد من أن تكافح للتحرر من العنصرية الغربية، ولفضح زيف الدعاية الأوروبية التي ملأت عقول المتغربين العرب وطمست بصيرتهم، فنادى بعضهم بالاحتفال بذكرى الحملة الفرنسية متجاهلين دماء الآلاف من الشهداء المصريين وملايين الشهداء الجزائريين والمسلمين في أفريقيا.
كما أن هذا المتحف يمكن أن يقدم لنا الكثير من الحقائق عن ظلم فرنسا وهمجيتها وتاريخها الأسود وعارها الذي ستظل الشعوب تذكره إلى الأبد.. ويوضح كذلك أن الرجل الأبيض عندما امتلك القوة الغاشمة استخدمها في إبادة البشر وقطع رؤوس قادة المقاومة الجزائرية التي لم تتوقف منذ عام 1830 حتى انسحب جيش فرنسا من الجزائر، وهذه المقاومة تشكل فخرا ومجدا للأمة الإسلامية كلها.
وهذه الرؤوس دليل على أن الأمة ترفض الخضوع للاستعمار، وأنها كانت دائما قادرة على المقاومة والتحدي وتحقيق الانتصارات؛ ونحن نريد الآن أن نبدأ حملة إعلامية لاستعادة هذه الجماجم لتدفن في الأرض التي كافحت لتحريرها، فوجودها في هذا المتحف إهانة لكرامتنا.
والأمة تحتاج إلى الكثير من العلماء الذين يعيدون كتابة التاريخ، ويقدمون للعالم القصة الحقيقية لشعب الجزائر الأبيّ الثائر الذي ظل يقاوم القوة الفرنسية الغاشمة 132 عاما .
إن وجود جماجم ثوّارنا وقادتنا في هذا المتحف إهانة لكرامتنا.
* أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعضو مجلس الشعب في برلمان الثورة. والمقال منقول من “الجزيرة.نت”.