قال لي أديب مشهور بعلمانيته وإنسانيته ـ رحمه الله ـ في مركب إنساني كان نادرًا؛ وذلك ذات صباح من أكثر من عشرين عامًا: “لقد كُنَّا حتى سنوات نتوقف عن تناول طعام العشاء إن رأينا صور الشهداء من إخواننا الفلسطينيين وكانوا ساعتها يعدون بالثلاثة أو الخمسة ـ يرحمهم الله ـ؛ ولكننا الآن صرنا نكمل طعامًا بشكل أكثر من اعتيادي فيما أخبار الانتفاضة والشهداء والمصابين وهدم البيوت أكثر قسوة وضراوة.. ولا أدري كيف يمكن أن يعاقبنا الله على بلادتنا وبلاهتنا هذه حيال أشقائنا المُعذبين في مواجهة عدو قاسٍ متحجر القلب وعالم تخلى عن كل خلق ومبدأ؟!”.
تذكرتُ كلمات الرجل لما تواصلت اقتحامات المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك الأخير والاعتداءات على أهالي حي “الشيخ جراح” القريب منه ومحاولات إجلائهم وطردهم من بيوتهم على يد المستوطنين أو غيرهم ممن يشاركونهم أو يقفون وراءهم، ساءني وآلمني كما آلم كل شريف وحر في العالم ـ فضلًا عن أن يكون مسلمًا ـ أن يرى البعض بالعالم العربي الإسلامي يغض الطرف ويصم آذانه ويغلق مسامعه عن عذابات إخوته الفلسطينيين سواء في داخل الكيان الصهيوني الغاصب أو في فلسطين المحتلة؛ خاصة حول بيت المقدس، وكأنه صار أكثر من عُرف عام وقانون موحد ضمني ـ غير معلن ولا متاح للإفصاح أو الإعلان عنه، ولكنه يسري وينتشر في أرجاء المسلمين، إلا مَنْ رحم ربي تعالى، ومؤدى ومضمون ذلك الأمر القاسي المنتشر غير المعلن أن الفلسطينيين، وإن كانوا أشقاء، إلا أن مأساتهم ممتدة وطويلة مداها الزمني وانتشارها المكاني؛ فهي تتجاوز قرابة الثلاثة والسبعين عامًا بشكل مباشر، وبالتالي فإن أغلب الأحياء اليوم في أرجاء المعمورة كلها جاءوا إلى الحياة في الأصل بعد ما اصطلح على تسميته بـ”النكبة”؛ وهم يظنون أنهم سيغادرون الحياة قبل حل هذه القضية التي يرونها “شائكة معقدة”، خاصة أن دولًا عربية أخرى دخلت على خط المواجهات الدامية بين بعض أهلها والبعض الآخر منهم لأسباب يمكن إجمالها كما بالربيع العربي وأخرى لا يمكن إجمالها من مثل ما تمر به العراق الشقيق، بالإضافة لدولة إسلامية كأفغانستان؛ ومناطق أخرى في العالم يضطهد ويُعذب المسلمون فيها كـ ميانمار أو الصين وغيرهما.
ربما كانت المقولات السابقة كافية لردع ضمير البعض وإسكاته لبعض الوقت لكنها ليست بالتأكيد بنافعة أو ناجزة أو ذات فاعلية حينما تدخل الأحداث منحنى اتساع المواجهات الدامية، فيظهر معدن أكثر الشعوب العربية الإسلامية بل شرفاء وأحرار العالم؛ كما في المواجهات الدامية الحالية التي أثبتت أن الأمة وقت ما يظنه العدو ازدهارًا بقدراته وتمكنه من أشقائنا في فلسطين.. الأمة كلها تنتفض شعوبيًا وإن تأخر كثير من انظمتها عن مؤازرة الفلسطينيين.
إن الشعوب المسلمة تنتفض لتقف إلى جوار الفلسطينيين حتى بعض الغافلين منهم في بداية أحداث دامية فما يلبث الآخرون أن يفيقوا، وذلك لخصوصية القضية من جوانب متعددة تجعلها قضية لا العرب وحدهم بل المسلمين بوجه أكثر دقة وتحديدًا الأكثر من مميزة، ووقت اتساع دائرة المحنة وآلامها تنتفض الأمة جيدًا للدفاع عن أول القبلتين وثاني الحرمين، إذ إن هناك رأيًا واضحًا يقول بأن الحرمين المكي والمدني يعدان حرمًا واحدًا وبذلك يصبح الأقصى ثاني الحرمين لا ثالثهم.
إن الأمة الإسلامية بخير وعافية ما تزال فلا تقبل وقت اشتداد المحنة ضيم وظلم إخوانها الفلسطينيين لكنها لا تدري ما الطريق لنصرتهم، فقد حيل بينها وبين ذلك؛ وفي نفس الوقت يتقاعس ويتراخى كثير من المفكرين وأصحاب الرأي عن القيام بالدور المُنتظر منهم لإرشاد الأمة والأخذ بأيديها نحو حلول وسطية عملية رشيدة لا تزيد من الآلام وتكون كفيلة بالتخفيف عن الأشقاء على خط المواجهات، وربما كان التقاعس لحرص كثير من أصحاب الرأي والفكر والعقل وشيء من التفكير أو حتى أشباههم على “لقمة العيش” ورضا حكومات وأنظمة تعادي الباحثين عن مثل هذه الحلول، وهكذا فإن الأقصى قضية لا يحملها إلا رجال لا أشباههم أو أصحاب الأغراض.
أما خصوصية قضية فلسطين بعامة والأقصى بوجه خاص فنابعة نابضة من أنها آخر قضايا الاحتلال في العالم كله، بمعنى أن جميع الشعوب المحتلة ـ ولو ظاهريًا ـ تم تحريرها من المحتلين فيما عدا فلسطين؛ وإن كان هذا لا يمنع أن الاحتلال المقنع أو المستتر أو المسمى بالثقافي يعمل على أشده حاليًا، بمعنى أنه كم من دولة إسلامية معلن استقلالها ولها علم ودستور وحدود فيما هي تابعة للأعداء بصورة غير مباشرة، أما أقوى أسباب قضية القدس وفلسطين بخاصة للمسلمين فهي أنها قضية عقيدة في المقام الأول والأخير، وهي ليست كما يحاول البعض إيهامنا أو التدليس علينا؛ فهي ليست قضية سياسية أو حدودية تحت أي مقياس أو منظار أو حكم عادل صائب ولو كان نظريًا، فإن معنى كلمة “إسرائيل” أي “الشعب المختار” في العرف الصهيوني، وإن الدولة تعلن أنها توراتية وتحاول إقرار تغيير أسماء المدن الفلسطينية العربية الأصيلة المعروفة منذ مئات السنين مثلًا يهوذا والسامرة على القدس الغربية ونابلس ورام الله وهلم جرًا؛ وهو من قبل صراع ديني بامتياز فالمحتلين لعروس عروبتنا وإسلامنا فلسطين من اصحاب الديانة اليهودية المحاربين في المقام الأول أي الصهاينة، وكلهم إلا العجزة والعجائز والأطفال في طور التعبئة العامة للحرب ضد المسلمين الذين يستطيعون محاربتهم من مثل الأردنيين واللبنانيين مؤخرًا لمجرد عبور الحدود نصرة للفلسطينيين، ومن قبل محاربة مصر مرات وسوريا وعرب آخرين ـ لا الفلسطينيين وحدهم ـ.
فكيف يدلس البعض علينا مدعيًا أنها حرب على قطعة أرض أو حدود أو سياسة؟ وإن كان الأمر يحتوي كل ما سبق ولا يقتصر عليه، ولكنها مفردات تالية للحرب الأصلية الرئيسية الدينية العقائدية التي ينبع منها ما سبق وهي في الأصل تخص العداوة والبغضاء للإسلام والمسلمين واغتصاب حقوقهم ومحاولات القضاء عليهم عبر أو بداية من العرب، وهو ما قال به الراحل الشيخ “محمد الغزالي” قبل سنوات بعيدة في كتابه “هموم داعية” مثلما قال كلمات في نفس المعنى والدلالة والانتصار للصليبية على المسلمين الرئيس الأمريكي الأسبق الأكثر تصريحًا بعقيدته والأغبى “جورج بوش الابن”، وهو ما صرح به مؤخرًا الرئيس الأمريكي الحالي “جون بايدن” في معنى واضح من أن المصالح الأمريكية كانت تستوجب وجود “إسرائيل” ولذلك فإننا إن لم نكن قد وجدناها الآن لأوجدناها.
أما الرابط بين قول الشيخ “الغزالي” و”بوش الابن” و”بايدن” فهو ما ذكره السياسي المخضرم والوزير الأسبق ومستشار الأمن القومي الأمريكي ذو الأصل اليهودي الألماني “هنري كيسنجر” إذ يقول في مذكراته “سنوات التجديد” إننا ندرك أن حضارتنا الغربية إلى أفول لكننا نعرف أيضًا أن الإسلام بما يحمله من عقيدة وسلوك كفيل بتقديم البديل لنا ومهمتنا الآن عرقلة عودة حضارته ما أمكننا من وقت!