الزبون وفق المعجم الوسيط هو “المشتري من تاجر”، أي “العميل” بالمعنى الدارج حاليًا، وتقسيم الناس بين “زبون” و”تاجر” أمر اعتادت عليه البشرية منذ بداياتها، ونتج عن حقيقة أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه.
ومن هنا نشأت فكرة “السوق”؛ حيث يجري البيع والابتياع، والذي كان دوما موضعًا محددًا يذهب إليه الإنسان ليبيع أو يشتري سلعة ما.
المستجد في عالمنا المعاصر يكمن في أن السوق قد تحركت، وأصبحت هي التي تذهب للإنسان في موضعه، وتقتحم عليه خلوته، حتى لو كان في عقر داره، فتتسلل إلى عقله، عبر هاتفه، مثلاً، ليصبح المسكين محاصرًا من التجار المتكالبين، المرئيين منهم والمخفيين، يتساءلون عما يفكر ويريد، فيطَّلعون على أخص خصوصياته من أجل إغوائه لشراء بضاعاتهم المزجاة، ولو كان في غير حاجة حقيقية إليها!
وفي خضم هذه السوق الغريبة، تجري تنحية كل ما يعوق عملية البيع والشراء، بما في ذلك الدين الذي يحدد للإنسان طريقًا مستقيماً يسلكه في الحياة من دون انحراف أو إسراف، كما يجري تفكيك الأسرة التي تعد حاضنة للإنسان، ترعاه وتمنحه الأمان الذي يعصمه من الزلل، بل ويحدث سحق للضمير الذي كان يؤنب الإنسان حين يرغب في إشباع شهوة من شهواته بطريق غير مشروع.
وبعد أن كانت الدنيا مسرحًا كبيرًا باتت سوقًا خطيرة، يُعرض فيها كل شيء للبيع والشراء من أجل جلب المزيد من المال، حتى الذمم والضمائر، بل حتى العِرض والشرف، فتجد من يعرض زوجته لطالبي المتعة الحرام، ومن تعرض جسدها سلعة لمن يريد التمتع بالنظر الحرام، ومن يبيع دينه لمن يستغله في إحكام الهيمنة على الناس أو سلب ثرواتهم المعنوية والمادية.
كما تحول كثير من المؤتمنين على صحة الإنسان إلى تجار أعضاء بشرية، أو سماسرة لشركات الأدوية، ومعامل الأشعة، والتحاليل، بل لم يعد مستغربًا تصور أن تفشي الأوبئة والأمراض وراؤه مخطط لبيع اللقاحات والأدوية لتجنب انهيار صحة الزبائن، فمن يدفع المال سيعيش، ومن لن يدفع فلا حاجة لأن يعيش!
هذا المنطق المادي الذي تحول به الإنسان إلى تاجر جشع أو زبون مستدرَج، أفقده الأمن والأمان، وجعل منه وحشًا كاسرًا بات يمثل خطرًا على نفسه وعلى كل كائن حي يعيش على الأرض، بعد أن تسبب عبث الزبائن والتجار في إفساد مناخ الأرض، فازدادت حرارتها، وتلوثت بيئتها، وتهددتها الأعاصير والفيضانات والبراكين والزلازل، بشكل لم يسبق له مثيل.
إنه طوفان كاسح، لا يستطيع الإنسان الراشد مقاومته فردًا، بل عبر جماعات واعية لا تعتمد على التصنيف التقليدي، وفق الدين، أو المذهب، أو اللغة، أو العرق، أو الإقليم، بل على أساس الانتماء لآدم (عليه السلام)، تسعى إلى تذكير التاجر/ الزبون أنه كان في الأصل إنساناً!