في ذكرى مولد حبيبنا النبي ﷺ نستحضر قوله ﷺ: “وددتُ أنِّي لقيتُ إخواني. فقالَ أصحابُ النَّبيِّ ﷺ: أوليسَ نحنُ إخوانَكَ قال: بل أنتُم أصحابي ولكن إخواني الَّذينَ آمَنوا بي ولم يرَوني”.
هكذا يعبر النبي ﷺ لأصحابه الكرام عن اشتياقه لرؤية إخوانه، ويبين أن إخوانه هم كل من آمن به ولم يره، فيا إخوان النبي ﷺ فلتكن ذكرى المولد فرصة لتجديد العهد مع الله عز وجل ومع نبيه الكريم ﷺ، عهد لتقديم محبة النبي ﷺ وجعلها فوق كل محبة بعد حب الله تعالى، وقد جعلها الحق تبارك وتعالى من لوازم محبته، محبة تورث اتباعا بما جاء من تشريعات في العبادات والمعاملات، واقتداء بكريم خلقه وقويم سلوكه، قال الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران: 31)، محبة لا يكتمل إيمان المرء إلا بها، تفوق جميع أنواع المحبة التي يعرفها البشر، “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين”، وفي رواية: “حتى أكون أحبَّ إليه من أهله، وماله، والناس أجمعين”، فحق النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وآكَدُ من حق ما سواه؛ من الولد والوالد والمال والناس أجمعين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان سببًا في استنقاذنا من النار، وهدايتنا من الضلالة، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: “لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال ﷺ: “لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك”، فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إليَّ من نفسي، فقال: الآن يا عمر.
ويتفاوت الناس في تحقيق هذه المحبة في نفوسهم، تبعاً لقوة إيمانهم، فعلى قدر ترقي المؤمن في درجات الإيمان واليقين تزداد محبته لله ورسوله وترتفع منزلته، وكل من آمن بالله ورسوله ﷺ لا بد أن يكون له نصيب من هذه المحبة، لكن هذه المحبة تزيد وتنقص بحسب ورعه وتقواه، يقول الإمام القرطبي: “من المؤمنين من يكون مستغرقًا بالشهوات، محجوبًا بالغفلات عن ذلك المعنى -أي: محبة النبي ﷺ- في أكثر أوقاته، فهذا بأخسِّ الأحوال، لكنه إذا ذُكِّر بالنبي ﷺ وبشيء من فضائله اهتاج لذكره، واشتاق لرؤيته، بحيث يؤثر رؤيته.. غير أنه سريع الزوال والذهاب؛ لغلبة الشهوات، وتوالي الغفلات، ويُخاف على من كان هذا حاله ذهاب أصل تلك المحبة، حتى لا يوجد منها حبَّة، فنسأل الله الكريم أن يمن علينا بدوامها وكمالها، ولا يحجبنا عنها”.
يتبين لنا مما سبق أن من علامات محبة النبي ﷺ نصرة دينه، والدفاع عن مسرى النبي ﷺ وتخليصه من دنس الاحتلال، وإحياء سنته، والذب عن شريعته، ومجاهدة المنافقين والكفار وكل من ينقص من شأن النبي ﷺ، ومن علامات محبته ﷺ دراسة سيرته ونشرها، والسير على هديه، ومحبة آل بيته الأطهار، وصحابته الكرام من المهاجرين والأنصار. وعلى قدر إيماننا تكون محبتنا، فلينظر كل مسلم أين مكانه من هذه المحبة.
ذكر الرافعي في كتابه الرائع “وحي القلم” جانباً من أوصاف النبي ﷺ فقال: “كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، ليس بالجافي ولا المهين، يعظّم النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئاً، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تعدى الحق لم يُقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضبُ لنفسه ولا ينتصر لها، وكان خافضَ الطرف نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، من رآه بديهةً هابه، ومن خالطه معرفةً أحبَّهُ، ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، ولا يطوي عن أحدٍ من الناس بشرّه، قد وسع الناس بسطه وخُلقه، فصار لهم أباً، وصاروا عنده في الحق سواء. يُحسّن الحسن ويقويه، ويُقبّحُ القبيح ويُوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، وكان أشد الناس حياءً، لا يثبت بصره في وجه أحد، له نورٌ يعلوه كأن الشمس تجري في وجهه، لا يؤيّس راجيه، ولا يُخيبُ عافيه، ومن سأله حاجةً لم يرده إلا بها أو بميسورٍ من القول، أجود الناس بالخير”.
فلنثبت محبتنا للنبي ﷺ بالعمل والاتباع، ولنأخذ ما استطعنا من صفاته وأخلاقه، ولنزن أقوالنا وأفعالنا بميزان هديه وصفاته.
اللهم ثقل موازيننا واجعلنا هداة مهتدين.