عاد التصعيد ليصبح سيد الموقف في حرب اليمن بعد أن حققت قوات دعم الشرعية انتصارات ميدانية في شبوة، ورد الحوثيون بقصف الإمارات، وسط تكثيف لمعارك مأرب وتفاقم الكارثة الإنسانية.
وتسيطر التغطية الإعلامية للحرب في اليمن على الجوانب السياسية ووجهات نظر الأطراف المتصارعة، سواء جماعة الحوثي التي انقلبت على الحكومة الشرعية في اليمن أواخر عام 2014، أو تحالف دعم الشرعية بقيادة السعودية والإمارات الذي دخل اليمن منذ مارس/آذار 2015 بهدف القضاء على الانقلاب وإعادة الحكومة الشرعية إلى الحكم.
وكان تعرض العمق الإماراتي الإثنين 17 يناير/كانون الثاني لقصف بصواريخ باليستية وطائرات مسيرة أطلقتها جماعة الحوثي قد تسبب في عودة أخبار الحرب في اليمن لتهيمن على عناوين الأخبار في المنطقة وحول العالم، مع التركيز على ما يقوله الحوثيون وما يقوله الإماراتيون والتنديد بالهجمات من جانب دول المنطقة والعالم.
وكان الحوثيون قد استخدموا سيطرة قوات الحكومة اليمنية، تتقدمها “ألوية العمالقة” المدعومة من الإمارات على محافظة شبوة بالكامل خلال الأسبوع الماضي، لتبرير قصفهم مطاري دبي وأبوظبي ومناطق أخرى في العاصمة الإماراتية، مهددين باستمرار القصف ما لم تتوقف الإمارات عما وصفوه بالتصعيد ضدهم.
اشتعال معارك مأرب
وعلى مدى العامين الماضيين، ظلت محافظة مأرب، الواقعة في وسط اليمن، محور الحرب المستمرة في اليمن منذ ما يقرب من سبع سنوات، حيث تسببت المعركة للسيطرة عليها في تعطيل جهود السلام التي تقودها الأمم المتحدة. وتسيطر الحكومة على المدينة الرئيسية في المحافظة وعلى البنية التحتية للنفط والغاز القريبة، بينما يكثف الحوثيون من هجومهم للسيطرة على المحافظة التي تعتبر آخر معاقل حكومة هادي في شمال اليمن.
ويعيش في مأرب، إحدى مدن اليمن أكثر الدول العربية فقراً، ما يزيد عن مليون نازح ممن لاذوا بالفرار خوفاً على حياتهم من باقي أنحاء البلاد منذ اندلاع الحرب في اليمن. بينما تواجه دول الاتحاد الأوروبي الغنية أزمة سياسية عنيفة بسبب مئات من اللاجئين الجُدد يسعون للدخول إلى دول الاتحاد.
وقد وصل إلى صحراء مدينة مأرب حوالي 45000 من النازحين داخلياً، بسبب الحرب منذ سبتمبر/أيلول الماضي فقط، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC. وقد امتد الأثر السلبي لضغوط الحرب منذ اندلاعها في اليمن إلى كل أوجه الحياة في مدينة مأرب.
وسعت السعودية منذ بداية العام الماضي إلى تهدئة الأمور في اليمن والبحث عن مخرج، وفي 5 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وفي إطار محاولات الأمم المتحدة تدارُك تداعيات التصعيد في مأرب، زار المبعوث الأممي الخاص هانس غروندبيرغ طهران، حيث التقى كبار المسؤولين، في محاولة لإنهاء الحرب في اليمن.
قالت وسائل إعلام إيرانية وقتها إن غروندبيرغ فشل في إقناع المسؤولين الإيرانيين بالضغط على الحوثيين لوقف تقدمهم في مأرب، حيث قالوا له إن القرار بيد اليمنيين، وإن الطريق إلى السلام يمر عبر رفع الحصار عن اليمن (يقصدون من طرف السعودية).
وشهدت الأسابيع القليلة الماضية تغيير الموقف السعودي والعودة إلى التصعيد مرة أخرى، إذ أعلنت القوات الموالية للحكومة اليمنية الأسبوع الماضي أنها انتزعت السيطرة الكاملة على محافظة شبوة الغنية بموارد الطاقة من أيدي الحوثيين، في خضم المعركة المشتعلة للسيطرة على محافظة مأرب المجاورة، والتي أصبحت محور الصراع ككل.
وقالت ألوية العمالقة اليمنية، وهي مجموعة مدعومة من الإمارات وتشكل جزءاً من التحالف بقيادة السعودية الذي يقاتل الحوثيين المتحالفين مع إيران، إنها استعادت السيطرة الكاملة على المحافظة بعد قتال على مدى 10 أيام. واعترف الحوثيون بانتصارات قوات التحالف في شبوة.
الحياة القاسية في مأرب
وعلى الرغم من أن وسط مدينة مأرب يبدو صاخباً ويعج بالحياة، إذ تخلق الحرب فرص عمل، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يخفي حقيقة أن هذه المدينة توجد في قلب الحرب وراء الشوارع المكتظة بالمارة، وأكشاك بيع الخضراوات والفاكهة واللحوم الطازجة، كما لا ينبغي أن تخفي تلك الجلبة في المدينة المزدحمة حقيقة أن الكثيرين من سكانها لا يستطيعون تحمل تكلفة شراء الطعام.
وقال الأطباء في عيادة أمراض التغذية لـ”بي بي سي” إن عشرة من كل مئة طفل يعانون سوء التغذية، بينما يعاني اثنان من هؤلاء العشرة من قصور حاد في التغذية. وكانت والدة تقوى طارش محظوظة للحصول على سرير لطفلتها في المستشفى. وتزن تقوى، البالغة من العمر ستة أشهر، 2.5 كيلوغرام، وهو ما يقل بكثير عن المعدل الطبيعي لوزن الأطفال حديثي الولادة. ولم يزدَد وزن الرضيعة سوى مئة غرام فقط منذ إيداعها المستشفى منذ عشرة أيام.
وتتوافر في مدينة مأرب وحدتان لعلاج الحالات الخطيرة لأمراض سوء التغذية، قدرة كل وحدة منهما 11 سريراً. وكان في المدينة أربع وحدات، لكنَّ اثنتين منها أصبحتا الآن في المنطقة التي سيطر عليها مقاتلو جماعة الحوثي أثناء تقدمهم في إطار الهجوم الحالي.
ويعاني مستشفى الجراحة من أوضاع بالغة السوء، فهو مكتظ بجرحى الحرب، من بينهم أطفال ومدنيون، لكن أغلبهم جنود في القوات الحكومية في اليمن. وقضى فريق من الجراحين البريطانيين من مؤسسة “أكشن فور هيومانتي” الخيرية، سبق له العمل في سوريا وغزة، أسبوعاً في مدينة مأرب اليمنية في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لإجراء عمليات بأساليب متخصصة لجروح ناتجة عن الحرب.
حرب استنزاف يدفع ثمنها اليمنيون
ومنذ أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تحولت حرب الاستنزاف حول مأرب، التي بدأت منذ حوالي عامين، إلى هجوم للحوثيين وتسارعت وتيرة العمليات العسكرية في محيط المدينة. وحقق الحوثيون مكاسب على الأرض، وقال مسؤولون دبلوماسيون معنيون بالأوضاع في اليمن لـ”بي بي سي” إنه لولا الدعم الجوي من السعودية للقوات الحكومية لسقطت مأرب بسرعة.
ووسط هذه الحرب القذرة، تواجه السعودية اتهامات بقتل مدنيين في الغارات الجوية التي تشنها على اليمن علاوة على اتهامات أخرى بحظر دخول واردات المواد الضرورية والأساسية إلى البلاد. كما تتهم جماعات حقوقية الحوثيين، أثناء الهجوم الحالي على مأرب، بممارسة القصف العشوائي لمناطق مدنية بالقذائف والصواريخ.
وقال يمنيون في المخيمات لـ”بي بي سي” إنهم فروا من هجمات الحوثيين ومقاتليهم أثناء تقدمهم. ويخيم أغلب الوافدين الجدد إلى مأرب على أميال من السهول الرملية القاحلة المنحدرة على أطراف المدينة.
وبلغ عدد مخيمات النازحين في مأرب وفي محيط هذه المدينة اليمنية حوالي 137 مخيماً، وفقاً لإحصاءات المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة. وتختلف تلك الأرقام بسبب توافد المزيد من المنهكين والمصدومين والجوعى إلى محيط المدينة واجتياح مقاتلي الحوثي المخيمات الكائنة على أطراف المنطقة الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية. وتجمع المئات من النازحين في مخيم السامية على الكثبان الرملية طلباً للمأوى والطعام والحماية خلال الأسابيع القليلة الماضية.
وقال رجل يُدعى عبد الله لـ”بي بي سي” إنه منذ أسبوعين كان ضمن العمالة غير المنتظمة في منطقة بعيدة عن أسرته عندما بدأ القتال في منطقة قريبة من زوجته لطيفة وأطفاله الستة، مما اضطره إلى العودة إليهم والتسلل معهم خارج تلك المنطقة التي تحولت إلى أرض معركة تاركين خلفهم كل ممتلكاتهم.
وقال عبد الله: “كل هذه الحروب، والقنابل، والانفجارات، وكل ما نتعرض له هنا تجعلني أشعر بالمرارة من هذه الحياة وأرجح أننا لن ننجو”.
وانضمت زوجته لطيفة إلى الحوار قائلة: “الطائرات الحربية وما تشنه من غارات يفزع أطفالنا. الجو بارد.. والموقف صعب. ليس هناك ما يوفر لنا الدفء، ليس لدينا فراش للنوم، وخيمتنا مصنوعة من الورق المقوى. ليس لدينا أي شيء”.
وتعمل المنظمة الدولية للهجرة جاهدة على احتواء الموقف، لكنها لم تتلقَّ سوى نصف التمويل الذي طلبته. وقالت شارون وانغا، إحدى العاملات في تنظيم جهود مساعدة المشردين، إن نقص الموارد المالية يجعل من المستحيل توفير المساعدة لجميع من يصلون إلى مأرب.
“نناشد المجتمع الدولي والمتبرعين الانضمام إلينا حتى يتسنى لنا توفير المساعدة المطلوبة لأنه تحدٍّ كبير. عندما يكون لديك ما يزيد على 45000 شخص في أقل من شهرين، فلابد أن تقلق في هذه الحالة، وهذا هو الموقف الذي نعيشه في الوقت الراهن”.
ومأرب منعزلة، فهي تقع على طريق سريع ذي اتجاه واحد يوصل إلى السعودية على بعد خمس ساعات من هذه المدينة اليمنية، وهو الطريق الذي تريد جماعة الحوثي أن تقطعه، كما تُعد المنطقة حول مأرب مركزاً لنشاط النفط في اليمن وبها يقع معمل تكرير النفط الوحيد في شمال البلاد.
ولا يمتلك اليمنيون اتخاذ قرار وقف الحرب في بلادهم، لأن القوى العظمى، التي تمارس لعبة القوة في الشرق الأوسط الذي ليست اليمن سوى جزء منه، قد تدخلت. إذ يمر أحد خطوط الصدع الاستراتيجية في المنطقة من اليمن والدول الكائنة في الشمال عبر دول الخليج، والعراق، وسوريا، ولبنان.
فعلى أحد جانبي هذا الصدع أصدقاء السعودية والولايات المتحدة، بمن فيهم الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً. كما تعد إسرائيل جزءاً من تحالف غير متوقع، وجميع هذه الدول يشترك في الشكوك تجاه إيران وحلفائها. وإلى جانب الحوثيين، هناك أيضاً ميليشيات في لبنان والعراق ومع نظام الأسد في سوريا.
ويقول عبد الله عن المسؤولين عن هذا الشقاء الذي يعاني منه هو وباقي اليمنيين: “لا أستطيع لوم أحد. فقد كان ذلك مقدراً لنا ولجميع اليمنيين. والأمر كله يتعلق بالكبار، لا بالناس العاديين”.