1- تولي ألب أرسلان زمام السلطة في البلاد:
تولى ألب أرسلان زمام السلطة في البلاد -بعد وفاة عمه طغرل بك- في 8 رمضان 455هـ/ 4 سبتمبر 1063م، وكانت قد حدثت بعض المنازعات حول تولي السلطة في البلاد، لكن ألب أرسلان استطاع أن يتغلب عليها، وكان ألب أرسلان -كعمه طغرل بك- قائداً ماهراً مقداماً، وقد اتخذ سياسة خاصة تعتمد على تثبيت أركان حكمه في البلاد الخاضعة لنفوذ السلاجقة، قبل التطلع إلى إخضاع أقاليم جديدة، وضمها إلى دولته، كما كان متلهفاً للجهاد في سبيل الله، ونشر دعوة الإسلام في داخل الدولة المسيحية المجاورة له، كبلاد الأرمن وبلاد الروم، وكانت روح الجهاد الإسلامي هي المحركة لحركات الفتوحات التي قام بها ألب أرسلان وأكسبتها صبغة دينية، وأصبح قائد السلاجقة زعيماً للجهاد، وحريصاً على نصرة الإسلام ونشره في تلك الديار، ورفع راية الإسلام خفاقة على مناطق كثيرة من أراضي الدولة البيزنطية.
لقد بقي سبع سنوات يتفقد أجزاء دولته المترامية الأطراف، قبل أن يقوم بأي توسع خارجي، وعندما أطمئن على استباب الأمن، وتمكن حكم السلاجقة في جميع الأقاليم والبلدان الخاضعة له، أخذ يخطط لتحقيق أهدافه البعيدة، وهي فتح البلاد المسيحية المجاورة لدولته، وإسقاط الخلافة الفاطمية (العبيدية في مصر)، وتوحيد العالم الإسلامي تحت راية الخلافة العباسية السنيّة ونفوذ السلاجقة، فأعد جيشاً كبيراً اتجه به نحو بلاد الأرمن وجورجيا، فافتتحها وضمها إلى مملكته، كما عمل على نشر الإسلام في تلك المناطق، وأغار ألب أرسلان على شمال الشام وحاصر الدولة المرداسية في حلب، والتي أسسها صالح بن مرداس على المذهب الشيعي سنة 414هـ – 1023م وأجبر أميرها محمود بن صالح بن مرداس على إقامة الدعوة للخليفة العباسي بدلاً من الخليفة (الفاطمي العبيدي سنة 462هـ/1070م)، ثم أرسل قائده الترك أتنسز بن أوق الخوارزمي في حملة إلى جنوب الشام فانتزع الرملة وبيت المقدس من يد (الفاطميين) العبيديين ولم يستطيع الاستيلاء على عسقلان التي تعتبر بوابة الدخول إلى مصر، وبذلك أضحى السلاجقة على مقربة من قاعدة الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي داخل بيت المقدس، وفي سنة 462هـ ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبي هاشم إلى السلطان يخبره بإقامة الخطبة للخليفة القائم وللسلطان وإسقاط خطبة صاحب مصر (العبيدي) وترك الأذان بـ”حي على العمل” فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار وقال له: إذا فعل أمير المدينة كذلك أعطيناه عشرين ألف دينار.
لقد أغضبت فتوحات ألب أرسلان دومانوس ديوجينس امبراطور الروم، فصمم على القيام بحركة مضادة للدفاع عن امبراطوريته، ودخلت قواته في مناوشات ومعارك عديدة مع قوات السلاجقة، وكان أهمها معركة “ملاذ كرد” في عام 463هـ الموافق أغسطس عام 1070م.
قال ابن كثير: وفيها أقبل ملك الروم أرمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والرخ والفرنج، وعدد عظيم وعُدد، ومعه خمسة وثلاثون ألفاً من البطارقة، مع كل بطريق مائتا ألف فارس، ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفاً، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية خمسة عشر ألفاً، ومعه مائة ألف نقّاب وخفار، وألف روزجاري، ومعه أربعمائة عجلة تحمل النعال والمسامير، وألفا عجلة تحمل السلاح والسروج والغرادات والمناجيق، منها منجنيق عدة ألف ومائتا رجل، ومن عزمه قبحه الله أن يبيد الإسلام وأهله، وقد أقطع بطارقته البلاد حتى بغداد، واستوصى نائبها بالخليفة خيراً، فقال له: ارفق بذلك الشيخ فإنه صاحبنا، ثم إذا استوثقت ممالك العراق وخراسان لهم، مالوا على الشام وأهله ميلة واحدة، فاستعادوه من أيدي المسلمين، والقدر يقول : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر: 72)، فالتقاه السلطان ألب أرسلان في جيشه وهم قريب من عشرين ألفاً، بمكان يقال له الزهوة، في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وخاف السلطان من كثرة جند الروم، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبدالملك البخاري بأن يكون وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين، فلما كان ذلك الوقت وتواقف الفريقان وتواجه الفئتان، نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عز وجل، ومرغ وجهه في التراب ودعا الله واستنصره، فأنزل نصره على المسلمين ومنحهم أكتافهم فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأسر ملكهم أرمانوس، أسره غلام رومي، فلما أوقف بين يدي الملك ألب أرسلان ضربه بيده ثلاثة مقارع وقال: لو كُنت أنا الأسير بين يديك ماكنت تفعل؟ قال : كل قبيح، قال فما ظنك بي؟ فقال: إما أن تقتل وتشهرني في بلادك، وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني، قال: ما عزمت على غير العفو والفداء، فأفتدى منه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار. فقام بين يدي الملك وسقاه شربة من ماء وقبل الأرض بين يديه، وقبل الأرض إلى جهة الخليفة إجلالاً وإكراماً، وأطلق له الملك عشرة ألف دينار ليتجهز بها، وأطلق معه جماعة من البطارقة وشيعه فرسخاً، وأرسل معه جيشاً يحفظونه إلى بلاده، ومعهم راية مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله). لقد كان نصر ألب أرسلان بجيشه الذي لم يتجاوز خمسة عشر ألف محارب على جيش الإمبراطور دومانوس الذي بلغ مائتي ألف، حدثاً كبيراً، ونقطة تحول في التاريخ الإسلامي لأنها سهلت على إضعاف نفوذ الروم في معظم أقاليم آسيا الصغرى، وهي المناطق المهمة التي كانت من ركائز وأعمدة الإمبراطورية البيزنطية، وهذا ساعد تدريجياً للقضاء على الدولة البيزنطية على يد العثمانيين.
لقد كان ألب أرسلان رجلاً صالحاً أخذ بأسباب النصر المعنوية والمادية، فكان يقرب العلماء ويأخذ بنصحهم وما أروع نصيحة العالم الرباني أبي نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي، في معركة ملاذ كرد عندما قال للسلطان ألب أرسلان: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان. وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح فالقهم يوم الجمعة في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين، فلما كان تلك الساعة صلى بهم، وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا فأمنوا، فقال لهم من أراد الانصراف فلينصرف، فما ههُنا سلطان يأمر ولا ينهى، وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض وتحنط وقال: إن قتلت فهذا كفني.
وما كان للسلطان ألب أرسلان أن يحقق كل هذه الإنجازات بدون جهود وزيره العظيم نظام الملك، الذي لم يكن وزيرًا لامعًا وسياسيًّا ماهرًا فحسب؛ بل كان داعيًا للعلم والأدب محبًّا لهما، أنشأ المدارس المعروفة باسمه “المدارس النظامية”، وأجرى لها الرواتب، وجذب إليها كبار الفقهاء والمحدثين، وفي مقدمتهم حجة الإسلام “أبو حامد الغزالي”. وقد ارتفع شأن ألب أرسلان بعد انتصاره الباهر، وصار مرهوب الجانب في الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، وحقق شهرة واسعة هو ووزيره نظام الملك الذي أسهم في وضع سياسة السلاجقة، وأشرف على تنفيذها، غير أن السلطان ألب أرسلان لم يهنأ كثيرًا بما حققه، ويجني ثمار نصره، ويواصل فتوحاته، فقد قُتِلَ بعد عام ونيف من موقعة ملاذ كرد على يد أحد الثائرين عليه، وهو في الرابعة والأربعين من عمره في (10 من ربيع الأول 465 هـ = 29 من نوفمبر 1072م”، وخلفه ابنه ملكشاه صاحب الإنجازات العسكرية والحضارية في القرن الخامس الهجري.
2- حصار الظاهر بيبرس لعكا:
في مثل هذا اليوم 8 رمضان عام 665هـ/ 1267م، بدأ حصار مدينة عكا، بقيادة الظاهر بيبرس؛ حيث بلغه وهو في دمشق أن جماعة من الفرنج تُغير في الليل على المسلمين وتتوارى وهي ترتدي ثياب المسلمين، قاد السلطان بيبرس سريَّة خاصة استطاعت اقتناصهم بعد أن كانوا يَنطلقون من عكا، حاول الفرنج المقيمون في عكا ضرب المسلمين، فأمر بيبرس بالقضاء على حاميتها وهدم جدرانها إذا لم يمتثل أهلها بالولاء للنظام الإسلامي للدولة.