بينما كان العالم يكافح لتجاوز تداعيات جائحة كورونا، والحد من آثار التغير المناخي، جاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لتضيف مزيداً من الغموض على مستقبل الاقتصاد العالمي.
هذه التطورات دفعت 4 مؤسسات مالية واقتصادية دولية، مجتمعة، للتحذير من تداعيات هذه الحرب، خصوصاً على الاقتصادات الضعيفة.
وأجمعت المؤسسات الأربع: البنك وصندوق النقد الدوليان، ومنظمة التجارة العالمية، وبرنامج الغذاء العالمي، في بيان مشترك الأسبوع الماضي، على أن الحرب في أوكرانيا ستؤدي إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي برمته، وستكون تداعياتها أشد وطأة في الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل.
واجتمعت الأزمات الثلاث: المناخ، وكورونا، والحرب في أوكرانيا، في وقت يغرق فيه عديد الدول العربية في أزمات مالية واقتصادية، تقربها يوماً بعد يوم من حافة الإفلاس.
والإفلاس يكون عندما تصل الدولة إلى مرحلة تعجز فيها عن الاستيراد لعدم توفر النقد، وعدم سداد الديون، وعدم القدرة على سداد أجور موظفي الدولة، وهي عوامل لم تجتمع حتى اليوم معاً في أي من الدول العربية المهددة بالإفلاس.
1- لبنان
دخل لبنان في أزمة مالية واقتصادية حادة، بدءاً من أكتوبر 2019، تفاقمت حتى وصفها البنك الدولي بأنها واحدة من أشد الأزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ويئن لبنان تحت واحد من أكبر أعباء الدين في العالم، بحجم ديون تبلغ حوالي 100 مليار دولار، منها حوالي 62 مليار دولار دين محلي بالليرة اللبنانية، 38 ملياراً منها دين خارجي دين خارجي بالعملات الأجنبية، أبرزها الدولار.
وقد دفعت الأزمة المالية والاقتصادية التي دخلتها البلاد إلى أعلنت الحكومة اللبنانية في مارس 2020، توقفها عن سداد الدين الخارجي، لعدم توفر الموارد الكافية لخدمة هذا الدين.
ومنذ ذلك الحين، تسارع الانهيار المالي في البلاد، إذ تراجع احتياطي لبنان من النقد الأجنبي من حوالي 38 مليار دولار في 2019 إلى حوالي 15 مليار دولار حالياً، جميعها احتياطيات إلزامية للجهاز المصرفي لا تستطيع الحكومة استخدامها في تغطيات واردات السلع الأساسية.
وعلى مدى نحو عامين، منذ أكتوبر 2019، فقدت الليرة اللبنانية نحو 90% من قيمتها، وبعد أن كانت مستقرة عند حوالي 1500 ليرة مقابل الدولار على مدى 20 عاماً، انحدرت ليصرف الدولار حالياً بنحو 31 ألف ليرة.
ومع شح الدولار في الأسواق، امتنعت المصارف اللبنانية عن تسحيب المودعين لودائعهم بالدولار، ووضعت سقفاً على السحب بالعملية المحلية مع الإبقاء على سعر الصرف في عمليات السحب معادلا للسعر الرسمي (1500 ليرة للدولار)، ما يعني فقدان الودائع الدولارية لنحو 80% من قيمتها.
2- السودان
مع سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في عام 2018، دخل السودان حقبة جديدة من تاريخه، وتزايدت الجهود والآمال لعودته إلى النظام المالي العالمي، بعد 25 عاماً على العزلة منذ أدرجته الولايات المتحدة على قائمة “الدول الداعمة للإرهاب”.
أدخلت العزلة الدولية السودان في العديد من الأزمات المالية والاقتصادية، خصوصاً بعد فقدان البلاد أكثر من 75% من مواردها النفطية باستقلال دولة جنوب السودان في عام 2011.
بنهاية حكم البشير، بلغ الدين الخارجي للسودان حوالي 60 مليار دولار، معظمها متأخرات لصندوق النقد الدولي وباقي دائنيه نادي باريس.
وبالفعل، ضم صندوق النقد الدولي السودان لمبادرته تخفيف الديون عن الدول الفقيرة “هيبيك”؛ ما سمح بإعفائه من 23.5 مليار دولار، ضمن عملية كان يؤمل أن تنتهي بإعفاء الخرطوم من نحو 54 مليار دولار، ومنحه مليارات الدولارات تمويلات من صندوق النقد وغيره من المانحين.
كل ذلك كان مشروطاً بإصلاحات اقتصادية جذرية، من بينها تعويم الجنيه السوداني، وهو ما تم فعلاً على مرحلتين؛ في فبراير 2021، وفبراير 2022؛ ما أدى إلى تراجع حاد في قيمة العملة المحلية، من 55 جنيهاً للدولار الواحد إلى حدود 400 جنيه للدولار.
ومن شروط صندوق النقد أيضاً، رفع تدريجي للدعم عن الوقود، وصولاً إلى إلغاء الدعم بالكامل في يونيو 2021.
وأدى انهيار العملة ورفع الدعم عن الوقود وسلع أساسية أخرى إلى تفاقم التضخم في السودان، ليصل إلى حدود 300%.
3- تونس
في عامي 2010 و2011، نما إجمالي الناتج المحلي التونسي بمتوسط 9%، لكنه بدأ بالتباطؤ اعتباراً من عام 2012 وصولاً إلى انكماش بنسبة 0.15% في عام 2014.
ورغم عودة اقتصاد تونس للنمو في السنوات التالية، فإنه حافظ على نسبة منخفضة، إذ لم يتجاوز النمو منذ عام 2017 نسبة 1.5% حتى عام 2019، إلى أن جاءت جائحة كورونا في عام 2020 بانتكاسة للاقتصاد التونسي، الذي انكمش بنحو 8.8%.
وحافظ الاقتصاد التونسي على معدل بطالة أقل من 12% حتى عام 2010، لكنه تزايد باطراد بعد عام 2011، ليحافظ على معدل قرب 17% حتى عام 2021.
وبلغ إجمالي الدين العام التونسي في عام 2010 حوالي 16 مليار دولار أو ما يعادل 55% من إجمالي الناتج المحلي، ليرتفع إلى 20.6 مليار دولار في عام 2017، ثم إلى 29 مليار دولار بنهاية عام 2020.
ويتوقع البنك المركزي ارتفاع الدين إلى 35 مليار دولار بنهاية عام 2021، أو ما يزيد على 100% من إجمالي الناتج المحلي، في حال نجحت مساعي تونس بالحصول على قروض خارجية جديدة، الجزء الأكبر منها من صندوق النقد الدولي.
وبلغ العجز في الموازنة العامة التونسية حوالي 7 مليارات دولار و8.5% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد في عام 2021.
كما تواجه المالية العامة عبئاً آخر؛ إذ عليها توفير حوالي 15.5 مليار دينار (5.6 مليارات دولار) لخدمة الدين، منها 10 مليارات دينار (3.6 مليارات دولار) بالنقد الأجنبي.
وتتفاوض تونس مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بنحو 4 مليارات دولار، لكن الصندوق يشترط خفضاً حاسماً في الإنفاق، خصوصاً في بندي الرواتب ودعم السلع الأساسية.
4- اليمن
رغم أن مديونية اليمن أقل بكثير من معظم الدول العربية، بواقع 10 مليارات دولار في أواخر عام 2021 وفق بيانات رسمية، فإن المشكلة الأساسية للبلد الذي يعاني حرباً مستمرة منذ 7 سنوات تتمثل بافتقاره للسيولة لتغطية وارداته من السلع، وتمكين الحكومة المعترف بها دولياً في جنوب البلاد.
بالتوازي مع الحرب العسكرية التي بدأت في عام 2015، تدور في الخفاء حرب مالية اقتصادية، إذ صادر الحوثيون الاحتياطيات النقدية للبنك المركزي عندما سيطروا على العاصمة صنعاء، وتقدر بحوالي 5 مليارات دولار.
وتوالت عمليات مصادرة الأصول والاحتياطيات النقدية من قبل الحوثيين، لتطال بين عامي 2016 و2018 أصول هيئة التقاعد والمعاشات وصناديق التقاعد والعديد من البنوك والشركات، بإجمالي 6 مليارات دولار، وفق تقارير دولية.
وقد شكلت مصادرة هذه المبالغ من النقد الأجنبي رفعاً للغطاء عن الريال وأدت إلى فقدان الدولار من الأسواق، وكانت هذه بداية انهيار العملة اليمنية.
في مارس 2014، كان الدولار يصرف بنحو 214 ريالاً يمنياً، لينحدر في أواخر عام 2021 إلى حوالي 1800 ريال للدولار الواحد.
وأدى هذا الانهيار للعملة المحلية، وفقدان العملات الصعبة لتمويل الواردات، إلى أزمات شملت جميع السلع الأساسية والوقود، التي قفزت أسعارها لمستويات تفوق قدرة اليمنيين المنهكين من الحرب.
5- سورية
لا تعاني سورية من مديونية خارجية، إذ بادرت في عام 2019 إلى سداد كامل الدين الخارجي، البالغ 23 مليار دولار معظمها لروسيا وإيران والعراق.
ومع ذلك، فإن فقدان سورية للسيولة اللازمة لتغطية وارداتها من الخارج، خصوصاً بعد تراجع دعم روسيا المشغولة في الحرب مع أوكرانيا، أدخل اقتصاد البلاد في مرحلة جديدة من الانهيار.
فمنذ فرض العقوبات الغربية، بدءاً من عام 2012، تقلص الاقتصاد السوري حتى بات يعتمد على رواتب الموظفين وبعض الخدمات فقط، وحرمانه من باقي القطاعات، كالنفط والصناعة وغيرها.
وانهارت الليرة السورية من متوسط سعر 50 ليرة للدولار في بداية الحرب عام 2011، إلى 2814 ليرة السعر الرسمي للدولار، وحوالي 4000 ليرة في السوق السوداء.
وتحت ضغط نقص السيولة واستنزاف الاحتياطي بسبب العقوبات الغربية، قلصت الحكومة السورية في عام 2019، بشكل كبير، دعم السلع والخدمات الأساسية، كالطحين والوقود والكهرباء، تبع ذلك في فبراير الماضي، وقف الدعم عن حوالي 500 ألف أسرة.
في المحصلة، فإن أكثر من 90% من السوريين في مناطق سيطرة النظام تحت خط الفقر، و70% يعيشون على تحويلات نقدية من الخارج.
_____________________________
(*) وكالة الأناضول (بتصرف يسير في العنوان).