علمنا الجميع أن الإنسان جسد وروح، وأن الجسد ينتمي لعالم الأرض والطين، وأن الروح تحن لعالمها السماوي، فمن ترقى غدا روحانيا في مصاف الملائكة، ومن سفل دخل جماعة البهائم، وأمم الطين، لكنني أرى هذه المعادلة إسلاميا مغلوطة، فالبشر خلق ليكون بشرا، وبمواصفاته هذه، بما له، وعليه، يسبح بحمد ربه، ويتعلم في كونه، وقد يخالف أوامره، حتى يصل لسفك الدماء، والفساد في الأرض.
لماذا هذه المقدمة غير الرمضانية مطلقاً؟
لأن رمضان أبرز مدرسة نتعلم فيها هذه الحقيقة، حقيقة بشريتنا، وأننا خلقنا لهذه الأرض، وخلقت هي لنا، وخلقنا بهذه الصفات جميعها، من طيبها، وخبثها، وسهلها، وجبلها، وأبيضها، وأسودها، لنعمرها، ونعبد الله عليها، ونرجع لما كان فيه أبونا آدم عليه السلام.
لهذا صامت البشرية، وصامت أمة الشهادة والشهود كما صام من قبلها، لتترقى عبر تحكمها في ذاتها، وعبر إدراكها مساحة الاختيار في المباح، وعبر قدرتها على العمل بالطاقة المتاحة لها، وصنع الإعجاز عبر ذلك.
وإذا كان الكل يذكر الخلوة قبل الجلوة، والتخلية قبل التحلية، فرمضان شهر التخلي والتحلي في ديناميكية متداخلة، فبينما يسجد قلب الإنسان وجسده وروحه قبيل تكبيرة الفجر، ليمسك عن المباحات جميعا، فإنه يرفع رأسه من هذه السجدة للأمر الإلهي بالإمساك، ليتمتع بالمباحات ذاتها التي حرمت عليه، وذلك عند تكبيرة المغرب.
وبينهما ينبغي له ألا يرفث، ولا يصخب، وألا يكون نهار صومه، كنهار فطره، ناهيك عن أن يواصل تلك العادات المذمومة، فمن لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة أن يدع طعامه، وشرابه.
لاحظ أخي الكريم معي أن صومك لم يسمح لك فيه بعطلة عن العمل كعطلة السبت، ولم تؤمر فيه بالتخفيف من إيقاع حياتك اليومي، بل وفي المقابل، رخص لك في الفطر عند المشقة، وخروج الأمر عن القدرة، وحالات القتال.
إنها المثالية في هذا الدين، ليست في الثبات على حالة من الخيرية المطلقة الملائكية، ولا حتى في السعي للوصول إليها، فلو لم نذنب، فنستغفر، لذهب الله بنا، وجاء بقوم آخرين يذنبون، فيستغفرون، فيغفر الله لهم، إنما حالة الخيرية النسبية التي يجتهد كل منا فيها أن يكون خيره أكثر من شره، وأن يترقى في الخير ما أمكنه واستطاعه، وأنه مع ذلك يبقى بشرا، يأكل، ويمشي في الأسواق، ويتزوج، فمن رغب عن سنته صلى الله عليه وسلم، فليس منه.
وهذا جوهر الإسلام في أخلاقه، لا كبت للرغبات والقدرات، بل تحكم فيها، يسمح لها بالانطلاق المنضبط باتجاه موافقة إرادة الله عز وجل ومقاصده.
ولو تأملت حياة المسلمين في حضارتهم، لوجدت إيقاع الحياة عندهم يبقى كما هو، لا يتغير كثيرا، رغم وجود المظاهر المتصلة بالاستهلاكية عند كثير من الفئات المترفة، ولكن هذا لم يعن مطلقا أن تتوقف الحياة عندهم، أو أن يتحول الصوم لذريعة كسل أو تهاون، بل حسبك أن تكون معارك من أجل معارك الإسلام، وفتوحه قد جرت في هذا الشهر، وناهيك ببدر الكبرى، والأندلس.
ومن الطريف في المقابل، أن الصوم ذاته، بما هو تخل عن رغبات الجسد مؤقت، فإنه يتضمن استمداد الطاقة بصورة مختلفة، فضبط نفسيتك، وتحكمك في أعصابك، وردود فعلك، كله يحفظ طاقتك، ويجدد عزيمتك، ويطرد عن نفسك عوامل التوتر، والقلق، التي تبدد هذه الطاقة، فيسمح لك بالعمل، والتوهج.
ومع ضبط ذاتك، واجتهادك فيه، ينفتح لك باب التزكية، والترقي، فهل تتذكر حديث القرآن عن الذين يجاهدون في الله، فيهديهم سبله، ويسوقهم للإحسان لأن معية الحق مع المحسنين؟ وبذا، تجد نفسك مترقياً، فكفك عن الشر يفتح باب الخير، وتبدأ روحك تترقى، ونفسك تتزكى، في مواجهة تحديات الدنيا، وأسئلة الوجود، والانطلاق نحوها، وهكذا، تجد نفسك مترقياً، وماضياً بتعلقاتك للأفق الأقصى، بينما أنت لا تزال على الأرض تعمرها، وتتعلم فيها، وتعلم غيرك، ففي قلبك خلوة بالحق، واختلاط بالخلق، وجسدك منضبط بأوامر الحق، ومنطلق بها بين الخلق.
فهل رأيت كيف يكون الصوم خلوة وجلوة في آن معاً؟
صياماً وفطراً مقبولين زكيين.
________________________
(*) المصدر: “مدونات الجزيرة”.