قضية تربية الأولاد هي القضية الأولى عند كل أب وأم، ولا أبالغ إذا قلت: إنها صارت من أصعب المهام هذه الأيام؛ فانتشار الفساد من حولنا ليس له وصف إلا كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}؛ فقد صار الإعلام في مجمله أداة لهدم الأخلاق عند النشء، كما لا يخفى أن الدور التربوي عند أغلب المدارس قد تضاءل إلى درجة الاختفاء، كما اختفى دور المسجد بحجة تجفيف منابع الإرهاب، فإذا أضفنا إلى ما سبق انشغال الأبوين، فقل لي: من يربي النشء إذن؟!
والحقيقة التي يجب أن نعترف بها أننا في الغالب “نرعى” أولادنا لكننا لا “نربيهم”؛ فهناك فرق بين الرعاية والتربية؛ فالرعاية تشمل الأكل والشرب واللبس إلخ وهذه نقوم بها بنجاح. أما التربية فقضية أخرى تماما؛ فلكي يمكن أن نقول إننا “نربي” فعلا فإنه يجب أن نمارس مع أولادنا -من وجهة نظري- عدة أمور، منها على سبيل المثال لا الحصر هذه البنود الأربعة:
- إكسابهم مهارات.
- ترسيخ السلوك والأخلاق القويمة.
- ترسيخ بعض القناعات والمعارف النافعة.
- الاهتمام بالوجدان والروحانيات.
فإذا كنت تنفذ بعضا من هذه البنود، أو مثلها، فأنت “تربي” أولادك، وإلا فأنت فقط “ترعاهم”.
بالطبع هذه البنود الأربعة السابقة والأمثلة التفصيلية التالية لكل بند منها هي مجرد اقتراحات من وجهة نظري، ويمكن اعتبارها أنها فقط للاسترشاد، وكل إنسان بعد ذلك يضع البنود التي تناسب أولاده، وتناسب ما يطمح أن يصلوا إليه.
ملاحظة مهمة: قبل قراءة الأمثلة التالية يجب أن أشير إلى أن بعضها يمكن تحقيقه بواسطة الوالدين مباشرة، ولكن البعض الآخر غالبا سيحتاج إلى عمل جماعي لتنفيذه، من قبيل أن يتم أولا تكوين مجموعة من أبناء الجيران، أو مجموعة من أبناء أصدقاء العمل المهتمين بنفس القضية، والسبب في ذلك أن الولد ربما لا يقبل بعض هذه الأفكار إذا أتت من والديه مباشرة، لكنه قد يقبلها إذا أتته من شخص آخر، ولا سيما إذا كان موجودا ضمن مجموعة من زملائه القريبين له في السن، وقديما قالوا: “زامر الحي لا يُطرب”.
وفيما يلي بعض الأمثلة العملية لتحقيق البنود الأربعة السابقة ومعظم الأساليب عملية وأحاول فيها أخذهم للواقع الحي بعيدا عن الموبيل وواقعه الافتراضي:
اكتساب المهارات
في البند الأول الخاص باكتساب المهارات، من المهم أن يكتسب أبناؤنا بعض المهارات من قبيل:
1- أن يكون قادرا على تكوين رأي، وإجادة التعبير عنه شفويا وكتابيا، وأن يكون قادرا على محاورة الناس. ولتحقيق هذه المهارة أقترح مثلا تكليف الولد بعمل مشروع ميداني للحوار مع أصحاب المهن في الحي مثل: الحلاق، البقال… وسؤالهم عن أطرف المواقف، وتاريخه في المهنة، وأهم المشاكل وتطور المهنة… إلخ. والهدف واضح وهو كسر الحاجز النفسي لدى الولد للتحاور مع الغير.
ويمكنه أيضا عمل حوارات السيرة الذاتية مع بعض الكبار في العائلة مثل جده مثلا لمعرفة الواقع في الزمان الماضي، وترجمة هذا الحوار إلى حديث مكتوب بأسلوبه.
2- أن يكون واثقا من نفسه ومن إمكانياته التي رزقه الله إياها، وأن يتكون لديه مبدأ “نعم أستطيع أن أفعل بنفسي”. وأقترح لتنفيذ هذه المهارة مثلا تعلم النقاشة وإصلاح عيوب الدهان، وذلك إما من خلال الوالدين أو أحد الأصدقاء أو حتى من خلال فيديوهات النت، ثم يسمح له الوالدان بإصلاح دهان حجرة معينة في المنزل وإعادة دهانها بنفسه، وستكتشف أن الأمر يسير، لكنه بالنسبة للأولاد إذا نفذوا ذلك فسيترك أثرا نفسيا عميقا لديهم، فقد فعل شيئا كبيرا مرئيا بنفسه.
ويمكن أيضا لتحقيق هذا الهدف تشجيع الولد أن يكون عضوا في الكشافة المدرسية، أو كشافة النادي، أو كشافة مركز الشباب القريب من سكنه من أجل تعلم بعض المهارات الكشفية من قبيل: العُقد، وإشعال النار، والطهي الخلوي… إلخ.
وأذكر أن ابني حين سافر للدراسة بأمريكا طلبوا منهم في حصة الرياضة التي درسوا فيها معنى ظل الزاوية Tan أن ينزلوا بعد الحصة لحوش المدرسة ويقيسوا ظل المبنى ويحسبوا ارتفاع المبنى من ظله!! وهكذا يكون التعليم ليس الحفظ وحل المسائل من “كتاب لامى”، وهو كتاب رياضيات على أيامنا كنا نجد فيه مسائل من امتحانات سنة 1940!
3- أن يكون قادرا على الكسب: ويمكن للأبوين تشجيع الابن على الالتحاق بعمل خلال الصيف، ولو لمدة شهر أو شهرين، على سبيل المثال العمل بدور الحضانات، أو كاشير في بعض المحلات، أو بائع في محل كبير إلخ
وأعرف زميلا لي كان يدفع سرا لإحدى الحضانات مرتب ابنته مقابل أن تشتغل عندهم، وبالطبع هي لا تعلم أن المرتب الذي تأخذه آخر الشهر هو في الواقع من والدها، لكن مجرد أن تتسلم مرتبا آخر الشهر كان شعورا جميلا بأنها قد أصبحت قادرة على العمل والكسب حتى في هذه السن الصغيرة.
وأعرف صديقا هو الآن من كبار رجال الأعمال، ولى الشرف أنه موجود ضمن أصدقاء صفحتي، كان في بداية حياته يذهب إلى جمعية السمك بحلوان فيشترى كمية من السمك المجمد بسعر الجملة، ثم يجلس في السوق فيبعها بسعر أعلى، وهو الآن رجل أعمال كبير.
ولا ننسى أن الحاج محمود العربي رحمه الله بدأ حياته بفكرة أن يذهب لسوق الجملة في “الموسكي”، فيشترى مستلزمات العيد من بمب وبالونات… إلخ، ثم يرجع لقريته فيبيعها بمكسب محترم في العيد، وكان سنه وقتها لا تتجاوز 12 عاما، ثم صار في النهاية شاهبندر التجار في مصر!!
ترسيخ الأخلاق القويمة
في البند الثاني الخاص بترسيخ السلوك والأخلاق القويمة، يجب أن نحاول ترسيخ بعض الأخلاق من قبيل:
1- بناء الثقة المتبادلة بين الوالدين والأبناء، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تكليفه مثلا لمدة شهر بشراء مستلزمات المنزل بالكامل من السوبر ماركت، كما يمكن مشاركة العائلة بالكامل في أعمال المطبخ مرة بالأسبوع، مع تعلم مهارات الطبخ المنزلي من الوالدة مباشرة لكل أفراد العائلة بما فيهم الوالد، وذلك في جو عائلي حقيقي.
2- أن تنضبط لديه مفاهيم العلاقة بين الرجل والمرأة: ويمكن لتحقيق ذلك عمل حلقات نقاشية عن الحب والزواج، بل وكافة الأمور الجنسية التي تخطر ببال الشباب، وهذه الأمور قد يصعب عرضها من الوالدين مباشرة، لكن يمكن مثلا عمل ذلك من خلال تجمع يجمع الولد وأصدقاءه المقربين مع أحد الأطباء من أصدقاء العائلة؛ فلا يكون هناك حرج الحديث مع طبيب، والأمر طبعا يتوقف على مهارة هذا الطبيب في استخراج الأسئلة منهم وتشجيعهم على الحديث المباشر، حتى لو من خلل أسئلة مكتوبة لا يعرف صاحبها من أجل توضيح كافة الأمور دون حرج.
3- أن تتأصل فيه مبادئ حب مساعدة الآخرين والتعاون مع الغير: ويمكن تحقيق ذلك عمليا من خلال مشاركة الولد مع مجموعة من أصدقائه في تنظيف مسجد مثلا (تنظيف سجاد أو حائط أو سقف أ نجف…)، أو إصلاح وتطوير حديقة مسجد أو حي أو دار أيتام، أو دهان مدخل عمارة، وكل ذلك بمتابعة من أحد أولياء أمور هؤلاء الطلبة الذي يتولى تقسيمهم إلى مجموعات عمل تنجز في النهاية مشروعا مفيدا، وبالتالي يتأصل مبدأ العمل والتعاون مع الغير.
إكساب القناعات والمعارف النافعة
في البند الثالث الخاص بترسيخ القناعات والأفكار والمعارف النافعة، يمكن أن نحاول تحقيق ما يلي:
1- أن يكون قادرا على تحديد هدفه في الحياة: ويمكن ذلك من خلال قراءة كتيبات عن قصص الناجحين (بيل غيتس، عبد القدير خان، عثمان أحمد عثمان… إلخ)، أو يمكن عمل ندوات مع أناس مميزين للمهن المختلفة من أصدقاء العائلة، يشرح كل واحد منهم قيمة مهنته وطرائفها وصعوباتها والتحديات فيها، وبالتالي يتعرف الولد منذ الصغر على المهن المختلفة؛ فيساعده ذلك على تحديد هدفه وما يسعى إليه في حياته.
2- تأصيل حب القراءة: يمكن ذلك بتوجيهه إلى بعض القصص الروائية الهادفة والمثيرة في نفس الوقت (من قبيل: تاجر البندقية، رجال تحت الشمس، مزرعة الحيوانات…إلخ)، ويمكن أيضا توجيهه إلى انتقاء مجموعات الكتب على سبيل المثال: مجموعات عجائب المخلوقات: عالم الحيوانات، عالم النباتات، عالم البحار…إلخ، أو مجموعة الكتب التاريخية مثل الاكتشافات الجغرافية، تاريخ الزنوج والعبيد في أمريكا، تاريخ الحروب العالمية… إلخ، مجموعة الكتب اللغوية: البخلاء، السمير المهذب، قصص الحيوانات لشوقي إلخ. والهدف هو البحث عن جانب القراءة الذي يستهويه من كل هذه المجالات، وبالتالي جذبه للقراءة عموما وبالطبع فإن النت والموبيل يمكن استخدامهما في هذا البند وليس بالضرورة الكتب الورقية.
أما البند الرابع وهو الخاص بالوجدان والروحانيات فمن أهم الأمثلة التي يجب تحقيقها فيه أن يكون سليم العقيدة صحيح العبادة، وهذه الأمور وغيرها في هذا البند تحتاج لمنشور مستقل!!
أخيرا، هل إذا طبقت هذا الكلام سيكون ابني مميزا وذا خلق ودين؟ الإجابة: لا أحد يضمن شيئا!! فابن سيدنا نوح كان غير صالح!! وبالتأكيد سيدنا نوح لم يقصر معه، فما عليك إلا أن تجتهد في العمل، وتجهد مع العمل في الدعاء والتضرع لله فتقول:
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}..
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}..
{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}..
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}..