من الشُّبه الغريبة التي يثيرها منكرو السُّنة اتهامهم للإمام أبي حنيفة رضي الله عنه بالبعد عن الاستشهاد بالسُّنَّة النبوية، ويدَّعون أنه كان يستعمل القياس على ما ورد من أحكام في القرآن الكريم ولا يلجأ إلى ما ورد في السُّنَّة النبوية، مما يدل -حسب زعمهم- على أن السُّنَّة ليست مصدر من مصادر التشريع.
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه هو: النُّعمان بن ثابت بن زوطى التيمي، الكوفي، مولى بني تيم الله بن ثعلبة(1)، وهو أول الأئمة الأربعة الكبار، أصحاب المذاهب الفقهية: الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد رضي الله عنهم أجمعين، ولد بالكوفة عام 80هـ، وتوفي ببغداد عام 150هـ، فهو يعتبر رائد الفقه الإسلامي المذهبي، وكان الإمام أبو حنيفة لا يخشى في الله لومة لائم، فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ما أثار ذلك عليه الأمويين والعباسيين وكان له مواقف حازمة معهم من كثرة نقده لهم، وبخاصة حول بعض الأمراء الأمويين، ومن المعروف أنه رفض منصب القضاء حين عرضوه عليه، واعتذر بأنه لا يصلح له، كما كان يرفض هداياهم، ويظهر تعففه عنها، وإعمالاً بمبدأ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كان رضي الله عنه ينقد في مجالسه العلمية الأحكام التي يصدرها بعض القضاة خطأ، أو فيها شيء من الخطأ، ومن أشهر مواقفه في هذا المجال نقده لقاضي القضاة ابن أبي ليلى في حكم جلد نفذه خطأ، والقصة بتمامها كما ذكرها الحسن بن زياد اللؤلؤي حيث قال: كانت عندنا امرأةٌ مجنونةٌ يقال لها: أم عمران، مر بها إنسانٌ فقال لها شيئًا، فقالت: يا بن الزانيَينِ، وابن أبي ليلى قائمٌ يسمع، فأمر أن يؤتى بها، فأدخلها المسجد وهو فيه، فضربها حدَّيْن؛ حدًّا لأبيه وحدًّا لأمه، فبلغ ذلك أبا حنيفة، فقال: أخطأ فيها من ستة مواضع: المجنونة لا حد عليها، وأقام الحد عليها في المسجد ولا تقام الحدود في المساجد، وضربها قائمةً والنساء يُضرَبن قعودًا، وأقام عليها حدينِ، ولو أن رجلًا قذف قومًا ما كان عليه إلا حدٌّ واحدٌ، وضربها والأبوان غائبان ولا يكون ذلك إلا بمحضرهما؛ لأن الحدَّ لا يكون إلا لِمَن يطلبه، وجمع بين الحدين في مقام واحد، ومَن وجب عليه حدانِ، لم يُقَمْ عليه أحدهما حتى يجف الآخر، ثم يضرب الحد الثاني، فبلغ ذلك ابنَ أبي ليلى، فذهب إلى الأمير فشكاه، فحجَر الأمير على أبي حنيفة أن يفتي(2).
هذه المواقف الجادة أكثرت من شدة الخصومة على الإمام أبي حنيفة وأشاع عنه خصومه، وهو حي يرزق، أنه يرفض الاستدلال بالحديث النبوي، ويفتي في المسائل التي لم يجد لها دليلاً في القرآن برأيه ولا يعمل فيها بسُّنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تصدى الإمام أبو حنيفة لهذه الافتراءات التي روجها خصومه ضده، ومنكرو السُّنَّة وجدوا هذه الشبهة جاهزة، فتلقفوها كما تتلقف “الجلالة” القاذورات من أكوام القمامة ثم أخذوا يضيفون إليها ويبالغون فيها وزعموا أن أبا حنيفة لم يكن يقبل من السُّنَّة إلا سبعة عشر حديثاً وأن فقهه متأثر بالثقافة الفارسية الوثنية، وهو فارسي الأصل، والحنين إلى الأصل غريزة مركوزة في طباع الناس، والهدف من هذه اللجاجة الإيحاء إلى العامة بأن السُّنَّة لا يثق في صحة رواياتها الإمام أبو حنيفة، وهو من هو في الإمامة والريادة والفقه، فمن الضلال إذن اعتبار السُّنَّة مصدراً للتشريع في الإسلام!
لقد عاش الإمام أبو حنيفة، وهو عالم، أكثر من ثلاثين سنة في ظل الدولة الأموية، وثماني عشرة سنة في ظل الدولة العباسية، وقد ضيق عليه الأمويون الخناق ففر من دمشق عاصمة دولتهم إلى مكة المكرمة، ثم عاد إلى بغداد لما آل الأمر إلى بني العباس ولكن تمسكه بالحق، والانتصار له أنشأ بينه وبين أمراء الدولة العباسية خصومة جديدة، إلى درجة أن منعوه من الفتوى ودرس العلم، وزجوا به إلى السجن في أخريات حياته ولم يجد خصوم أبي حنيفة من السياسيين والقضاة عيباً يسوئون به سمعته سوى أن يكذبوا عليه بأنه أعرض عن السُّنَّة وأحل الرأي محلها، وقد دافع الإمام عن نفسه، ورد على ادعاءات خصومه القدماء ردوداً مفحمة سجلتها الرواية الأمينة بكل إخلاص وصدق، قال الإمام رحمه الله: “كذب والله وافترى علينا من يقول: إننا نقدم القياس – يعني الرأي – على النص – يعني الحديث – وهل يحتاج بعد النص إلى قياس”؟!(3)، وقال: “نحن لا نقيس إلا عند الضرورة الشديدة، وذلك أننا ننظر في دليل المسألة من الكتاب والسُّنَّة، أو أقضية الصحابة، فإن لم نجد دليلاً قسنا حينئذ مسكوتاً عنه على منطوق به”(4).
هذا كلام إمام يقدر السُّنَّة حق قدرها، ويجعلها تالية للقرآن الكريم في الاستدلال، وإن ادعى خصومه عليه وأكثروا وكان يقول: “إنا نأخذ أولاً بكتاب الله، ثم السُّنَّة، ثم بأقضية الصحابة، ونعمل بما اتفقوا عليه، فإن اختلفوا قسنا حكماً على حكم، بجامع العلة بين المسألتين، حتى يتضح المعنى”، وكان يقول: “ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، بأبي وأمي – أي أفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي – وليس لنا مخالفته، وما جاء عن أصحابه تخيرنا، وما جاء عن غيرهم – يعني التابعين – فهم رجال ونحن رجال”، وفي رواية أخرى: “زاحمناهم” يعني: لنا حق إبداء الرأي في المسألة معهم.
إذن، فما الذي يريده منكرو السُّنَّة من الإمام أبي حنيفة حتى يبتعدوا عن الافتراء عليه، ويعرضوا عن اتخاذه منبع شبهة للطعن في سُّنَّة النبي صلى الله عليه وسلم؟!
إن الإمام أبا حنيفة لم يختلف عن بقية الأئمة الكبار أصحاب المذاهب الفقهية المعروفة، فأصول مذهبه هي أصول مذاهبهم المتفق عليها بينهم، وهي على الترتيب: الكتاب، السُّنَّة، القياس، الإجماع، فعلامَ الإساءة إلى هذا الإمام العظيم؟ وكيف يتخذ منه هؤلاء المضلون قدوة لهم في الإساءة إلى سُّنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، وقد فات هؤلاء أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن قد جمعت جمعاً موسعاً مدروساً في حياة أبي حنيفة، فكان رضي الله عنه إن أعرض عن اعتماد شيء من الأحاديث فإنه يريد التثبت والتأكيد من صحته، لا أنه يرفض السُّنَّة رفضاً مطلقاً، وقد جهل هؤلاء الحمقى أن لأبي حنيفة مسنداً في الحديث النبوي، جمع فيه أكثر من خمسمائة حديث، وهو مطبوع متداول، ولكن العناد يصيب أهله بعمي حالك، وإن كانوا يبصرون(5).
_____________________________
(1) سير أعلام النبلاء، جـ 6، صـ 390.
(2) الانتقاء لابن عبد البر، صـ 152 – 153.
(3) كتاب “الميزان في أصول الفقه” للشعراني، صـ51.
(4) المصدر السابق.
(5) أصل هذه الشبهات من كتاب: “هذا بيان للناس.. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية”، د. عبدالعظيم المطعني، مكتبة وهبة، طبعة 1420هـ/ 1999م.