يشهد العالم تحولات في موازين القوى الدولية، أبرزها تشكل تكتلات لدول في القارات الأمريكية والأفريقية والآسيوية تسعى إلى إحداث توازنات وتعددية في ظل الأحادية القطبية السائدة، وإلى كسر حالة هيمنة الجانب الغربي على القرار الدولي.
ولعل الاجتماع الأخير، يومي 15 و16 سبتمبر الجاري، للقمة الـ22 لمنظمة شنغهاي للتعاون المنعقدة في مدينة سمرقند الأوزبكية، دليل واضح على جهود حثيثة في هذا الاتجاه، خاصة وأن هذه القمة انعقدت في ظروف دولية معقّدة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها على السلم في أوروبا بالدرجة الأولى، وعلى الوزن السياسي والعسكري للقطب الغربي بدرجة ثانية، وعلى التوازنات العالمية الاقتصادية والجغراسياسية بدرجة ثالثة.
منظمة شنغهاي
وتعتبر منظمة شنغهاي للتعاون أحد أكبر التكتلات في العالم، وتضم نصف سكان الأرض تقريباً، وتأسست في عام 1996 بوصفها تكتلاً خماسياً يضم الصين وروسيا وكازاخستان وطاجيكستان وقرغيزيا، قبل أن تتوسع تدريجياً لتشمل باكستان، والهند، وأوزبكستان وأخيراً إيران، كما تضم منظمة شنغهاي للتعاون دولاً بصفة شريك الحوار، ويتمتع بهذه الصفة كل من أذربيجان وأرمينيا ونيبال وكمبوديا وسريلانكا وتركيا.
وهناك إمكانية التحاق دول أخرى بهذه المنظمة من بينها فيتنام وأوكرانيا وأفغانستان وبنجلادش، كما قدمت كل من مصر وسورية طلبًا للحصول على صفة مراقب، وعبّر العراق عن رغبته في أن يصبح شريكًا حواريًا للمنظمة.
من خلال هذه التركيبة، يتبيّن الثقل الجغراسياسي والوزن الاقتصادي الذي تمثله منظمة شنغهاي للتعاون، علاوة على أنها تمثل سكانياً نصف المعمورة (الصين وحدها مليار ونصف مليار تقريباً، والهند مليار و200 مليون نسمة، وروسيا 164 مليوناً)، وتعدّ روسيا والصين أكبر قوتين مؤثرتين في المنظمة، وواضح أنهما تسعيان لتوظيف هذا الكيان الإقليمي الآسيوي في إطار إستراتيجية المنافسة القوية للغرب على خلفية الخصومة العميقة مع الولايات المتحدة أساساً، وجاءت تصريحات قادة البلدين خلال القمة الأخيرة للمنظمة لتؤكد هذا التوجه، فالصين ترفض عالما “أحادي القطب”، وروسيا تؤيد تواجد “مراكز النفوذ الجديدة”.
قوى مسلمة
تجدر الإشارة إلى أن هذه المنظمة تضم بلداناً آسيوية إسلامية أعجمية من بينها عدد من بلدان جمهوريات آسيا الوسطى ذات الأغلبية المسلمة مثل تركمانستان وطاجكستان وأوزباكستان، التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي سابقاً، وتتجه نحو تنويع تحالفاتها مع تركيا وإيران وغيرها للحد من التأثير الروسي عليها، كما أن كازاخستان الدولة الأقوى اقتصادياً في آسيا الوسطى تسير في نهج التحول الديمقراطي بعد التعديلات الدستورية، وأهمها العودة إلى العاصمة أستانا وتحديد مدة ولاية رئيس الجمهورية، ويتوقع أن يكون لها دور بارز إقليمياً.
وإلى جانب جمهوريات آسيا الوسطى، تضم منظمة شنغهاي دولاً تمثل وزناً إقليميا شديد الأهمية، مثل باكستان (214 مليون نسمة)، وإيران (84 مليوناً)، وتركيا (77 مليوناً).
وعلى ذكر تركيا، فإنها عبرت عن إمكانية تخليها عن ترشحها للعضوية في الاتحاد الأوروبي مُقابل العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون بعد سلسلة من التوترات بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، بل إن تركيا أول دولة ترأس نادياً في المنظمة عام 2017؛ وهو نادي الطاقة دون حصولها على العضوية الكاملة، وفي كلمته خلال القمة، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: بصفتنا شريكاً محاوراً منذ 10 أعوام في منظمة شنغهاي للتعاون، باتت هذه المنظمة واحدة من نوافذنا المفتوحة على آسيا، وأضاف أن هدف بلاده تأسيس حزام سلام، في منطقتها وخارجها، عبر نهج دبلوماسي مبادر يعطي أولوية للإنسان وقيمه، وأكد أن موقع تركيا كجسر بين الشرق والغرب يوفر إمكانات فريدة، خاصة أنها تربط الجغرافيا بين أوروبا وآسيا، كما أن أنقرة عضو في الحلف العسكري الغربي (ناتو)، ومقبلة على حدث كبير العام المقبل (2023) تاريخ تحررها من القيود المجحفة التي فرضتها عليها دول الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الأولى لمدة قرن في إطار معاهدة لوزان، في 24 يوليو 1923، التي تُعدّ بمثابة شهادة وفاة الإمبراطورية العثمانية، ومن بين هذه القيود اعتبار مضيق البوسفور ممراً مائياً دولياً ولا يحق لتركيا تحصيل أي رسوم على استخدامه، والتحرر من هذه القيود يعني ولادة تركيا جديدة ذات تأثير إقليمي بارز.
من ناحيته، دعا الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، في كلمته، إلى التوسع في التجارة الحرة بين الدول الأعضاء بالمنظمة، إلى جانب التعاون المالي والمصرفي، في إشارة إلى أن إيران تبحث عن دور لها في المنطقة وفي العالم باعتبار موقعها الإستراتيجي في آسيا مع الوعي بوجود ثالوث القوى الشرقية (روسيا والصين والهند) الوازن سياسياً واقتصادياً وعسكرياً عالمياً داخل منظمة شنغهاي التي يرى فيها الرئيس الإيراني وسيلة لتحدّي النزعة الأحادية لواشنطن، مستحضراً خلفية الصراع بين إيران والولايات المتحدة حول الملف النووي والعقوبات المتعلقة بالملف، ولهذا طغى الخلاف الإيراني – الأمريكي على خطاب رئيسي، حيث اعتبر أن الولايات المتحدة لم تأخذ العبرة من فشلها في تدخلها في أفغانستان، وماذا عن روسيا التي يحضر رئيسها في اجتماع القمة؟ هل استفادت القيادة الروسية من دحر الجيش الأحمر في أفغانستان، أم أنها تمادت في الاحتلال والعدوان (جزيرة القرم، الشيشان، سورية، أوكرانيا..)؟ كما أكد الرئيس الإيراني رفض التدخل في سيادة الدول المستقلة، وماذا عن الدور الإيراني الشيعي في منطقة الشرق الأوسط (“الحوثيون” في اليمن، و”حزب الله” في لبنان، و”الحشد الشعبي” في العراق..)؟
وبغض النظر عن الحسابات السياسية والاعتبارات المذهبية، فإن تواجد قوى مسلمة ذات وزن إقليمي داخل منظمة شنغهاي للتعاون يبشّر بإسهام الطرف المسلم في التوازن الدولي بإرساء شكل من التعددية القطبية.
فهل يمكن الحديث عن بصيص أمل في تغيرات على مستوى النظام الدولي في ظل التداعيات السلبية على القطب الأوروبي الذي يواجه تحديات كبرى نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا؟