تناولنا في الحلقة السابقة من سورة «البقرة» قصة الاستخلاف وعمارة الكون التي بدأ الله تعالى بها قصص القرآن الكريم؛ لتبرز مركز القرآن وبؤرته من خلال مهمة الاستخلاف التي تمثل الدائرة الحاكمة لكل سلوك اقتصادي، وكيف أن الله تعالى ميز الإنسان بعلم وعمل غير محدودين، ومن ثم كان جديراً بالخلافة، وهذا العلم علمه المعلم الأول له سبحانه وتعالى لأبيهم آدم عليه السلام.
إن الله تعالى خلقنا لعبادته، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، والعبادة بمفهومها الشامل تعني تعمير القلب بالإيمان، وتعمير الأرض بالعمل الصالح والإنتاج النافع، فلا عبادة بدون عمران، ولا عمران بدون استخلاف، ولا استخلاف بدون معرفة التي هي سر تقدم الأمم ونهضتها، فبالعلم تبنى الأمم، وبه نزلت أول آية من كتاب الله على رسولنا الكريم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق)، كما أن كثيراً من آيات القرآن الكريم تتحدث عن التعقل والتدبر والتبصر، وبالعلم يكون التسخير للتعمير، لذا كان تعليم آدم الأسماء كلها بياناً لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في الأرض لاستعمارها والاستفادة من منافعها.
إن قيمة الأمة بما لديها من علم، والعلم تراكمي والباب فيه مفتوح للنظريات الاقتصادية الإسلامية بصورة تجمع بين التراث والمعاصرة، بين فقه النص وواقع العصر، اعتماداً على الوحي والعقل، فالعلم كله مرجعه إلى الله وحده، فهو المعلم الأول، وهو مصدر العلم والحكمة، وإذا خفيت على المسلم حكمة شيء فلا يترك العنان لعقله بعيداً عن الوحي، فالعقل لا يدرك كل شيء، وهو ليس المصدر الوحيد للمعرفة كما في الغرب، قال تعالى ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ {42} قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ (هود) فلم يغلب عقل ابن نوح الوحي، وكان مصيره الغرق لاحتكامه للعقل منفرداً.
ويبرز د. يوسف العالم، رحمه الله تعالى، وسائل المعرفة والعلم والترابط بينها بقوله: «إن وسائل المعرفة والعلم دوائر ثلاث: دائرة الحواس، وهي أضيقها لأنها لا تتعدى عالم الشهادة المشاهد، وتليها دائرة العقل وهي أكثر شمولاً وإحاطة عن دائرة الحواس لأنها تستطيع الإحاطة بغير المشاهد، وتلي دائرة العقل دائرة الوحي، وهي أعم الدوائر وأشملها وأوسعها.
وهذه الدوائر الثلاث ليست منفصلة بعضها عن بعض ولا متنافرة، بل كل واحدة أقل من أختها تعتبر مقدمة لها، وأساسها الذي تقوم عليه، وكل واحدة أعلى من أختها تعتبر مهيمنة عليها، ومتحكمة في تصحيح إدراكها، وردها إلى الصواب.
وليس هناك تعارض بين دائرة وأخرى إلا في أذهان الناس الذين ينكرون وجود إحدى الدوائر الثلاث، أو لا يحسنون ترتيبها مع بقية الدوائر؛ فدائرة الحواس مقدمة لدائرة العقل، ودائرة العقل مقدمة لدائرة الوحي، وذلك لأن الحواس إذا زالت لا يتصور وجود العقل بدونها أو على الأقل لا يؤدي وظيفته إلا بوجودها، ودائرة العقل إذا زالت زال التكليف والإدراك للوحي.
وهكذا، فإن المعرفة الإسلامية توظف وفي وقت واحد مصادر المعرفة العقلية والتجريبية الاستقرائية إلى جانب مصادر المعرفة الكونية الكلية الاستنباطية (المستمدة من الوحي).
ورغم شيوع استخدام مصطلحات المعرفة والعلم، فإنه في ظل ترسيخ المناهج العلمية توجد تفرقة واضحة بينهما، فالمعرفة أوسع من العلم، حيث تشمل كل ما يتجمع لدى الإنسان من المعلومات العامة أو الحقائق القائمة على التجربة أو الإدراك الحسي أو التأمل الفلسفي أو الجهد الفكري المنظم، بينما العلم يتعلق بالجهد الفكري المنظم.
فالعلم فرع من فروع المعرفة يمثل معرفة منظمة تنشأ عن الملاحظة الحسية التي تعرضت للفحص والتدقيق والتحليل والتجريب بغرض تحديد طبيعة وأسس وأصول ما تم دراسته، فهو يختص بجسد مترابط من الحقائق المصنفة على أسس منطقية، ويبين القوانين العامة التي تحكمها، والطرق والأدوات التحليلية التي تحكم زيادة الرصيد من هذه الحقائق.
ولا علم بدون منهج، فلا ممارسة للعلم بدون قاعدة علمية وضوابط منهجية، والمنهج هو الطريقة الواضحة التي ينتهجها العقل للتوصل إلى الكشف عن الحقيقة التي يريد الباحث الوصول إليها، مستعيناً في ذلك بمجموعة من القواعد العامة التي يخضع لها العقل في عملية البحث عن طريق بعض أدوات التحليل، ومنها: أدوات التحليل المنطقي التي تضم الطريقة الاستنباطية والطريقة الاستقرائية.. إلخ، وذلك بهدف التوصل -من خلال عملية التحليل- إلى أفكار ومقولات عامة.
ويمكن القول: إن المعرفة مجموعة حقائق، أما العلم فإنه فرع من فروع المعرفة نظمت حقائقه ونتائج البحث فيه بصورة فرضيات وقوانين عامة، قابلة للتمحيص والاختبار بالمنطق أو التجريب أو بالاستقراء.. إلخ.
ويرى د. أنس الزرقا أن مفهوم العلم في القرآن الكريم والحديث الشريف لا يقتصر فقط على المعرفة اليقينية المطابقة للواقع، بل يشمل أيضاً الظن الراجح، لذا نجد علماء الشريعة متفقين على تسمية الفقه علماً، مع أن كثيراً من أحكامه مبنية على أدلة ظنية، كما أنهم متفقون على وجوب العمل بمقتضى الأدلة الظنية الراجحة، وذمت الشريعة اتباع الظن غير الراجح ولم تسمه علماً، ولما كان القسم الأكبر من محتوى العلوم الاجتماعية ومنها الاقتصاد إنما يبنى على أدلة ظنية راجحة تعتمد على الملاحظة والاستنتاج والاستقراء، فلا تردد في تسميتها «علوماً» بالمعنى الشرعي أيضاً.
والاقتصاد كعلم اجتماعي محوره الإنسان ككل في نطاق الإنتاج والتوزيع والاستهلاك إشباعاً لحاجاته، وهو مجال يختلف عن مجال بحث وأهداف العلوم الطبيعية، وإن كانت جميعها في النهاية تخدم الإنسان، والاقتصاد في حقيقته ذات خصوصية باعتباره معرفة علمية مرتبطة بتفسير الظواهر الفردية المتفرقة من خلال منهج علمي لاستخلاص قوانين عامة، ومن ثم فإنه لا يمكن تنحية صفة العلمية عن الاقتصاد بصفة عامة والاقتصاد الإسلامي بصفة خاصة؛ حيث ينشغل الاقتصاد الإسلامي بالسلوك الاقتصادي للإنسان في إطار الأحكام والمقاصد الشرعية والجوانب العقدية والأخلاقية.