تدَّعون احترام الإسلام لحرية التدين وتؤيدون ذلك بالقرآن والسُّنَّة، وتُنكرون أن الإسلام انتشر بالسيف، وتؤكدون أن هذه كذبة أشاعها المستشرقون للإساءة إلى سماحة الإسلام، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا تقتلون المرتد عن الإسلام؟ أليس هذا ضد حرية التدين؟!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
هذه الشبهة أطلقها المستشرقون منذ زمن بعيد، إلا أن البعض ما زال يلوكها بلسانه دون وعي، وللرد على هذه الشبهة ينبغي أن نقرر التالي:
أولاً: حرية التدين في الإسلام مصونة بالقرآن والسُّنَّة
قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 256)، وقال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)، وقال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية: 21-22)، وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99)، فهذه النصوص القرآنية تؤكد وتبرهن على أن مبدأ الإكراه على اعتناق الإسلام مبدأ مرفوض شرعاً، وأن حرية التدين مكفولة للجميع، فليس لأحد بمقتضى هذه النصوص الربانية المحكمة أن يُكره الناس على دخول الإسلام إكراهاً، ولكن يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن أسلموا عن طواعية واقتناع كان خيراً وبركة، وإن أبوا إلا الاستمرار على دينهم تُركوا وشأنهم إلا إذا اعتدوا على المسلمين، وحينما جاء كفار قريش يعرضون على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى ويقبلوا ما جاء به، بشرط أن يشاركهم في عبادة آلهتهم الباطلة بعض الزمان، نزل قول الله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ {4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون) ليقرر مبدأ حرية التدين لكل إنسان.
وفي المصنف لعبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج قال: كان في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن: «ومن كره الإسلام من يهودي ونصراني، فإنه لا يُحَوَّلُ عن دينه، وعليه الجزية على كل حالم، ذكر وأنثى، حر وعبد دينار أو من قيمة المعافر أو عرضه»(1).
وعلى هذا سار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُكرِهوا غيرهم على اعتناق الإسلام، ولم يفرضوه عليهم فرضاً بالقوة والإكراه؛ لأنهم يعلمون يقيناً أن إيمان المكره غير صحيح وغير مقبول عند الله تعالى.
روى زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمِي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق، قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليّ قريب! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا (لاَ إكْرَاهَ في الدِّينِ) (البقرة: 256)(2).
وعن أبي هلال الطائي، عن أُسَّقَ، قال: كنت مملوكاً لعمر بن الخطاب وأنا نصراني، فكان يعرض عليَّ الإسلام ويقول: «إنك لو أسلمت استعنت بك على أمانتي، فإنه لا يحل لي أن أستعين بك على أمانة المسلمين ولست على دينهم، فأبيت عليه، فقال: لا إكراه في الدين، فلما حضرته الوفاة أعتقني وأنا نصراني وقال: اذهب حيث شئت(3).
ثانياً: حكم قتل المرتد
قتل المرتد مما أجمع عليه العلماء في الجملة، وقد عدَّد الكاساني أحكام المرتد، فقال: «إباحة دمه إذا كان رجلاً حرّاً كان أو عبداً لسقوط عصمته بالردة.. وكذا العرب لما ارتدت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم»(4).
ونقل ابن رشد الاتفاق على قتل الرجل المرتد(5)، وقال الشافعي: «ومن ارتد عن الإسلام إلى أي كفر، كان مولوداً على الإسلام أو أسلم ثم ارتد قتل»، وقال أيضاً: «والقتل على الردة حدٌّ ليس للإمام أن يعطِّله»(6).
وقال ابن قدامة في المغني: أجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم، ولم يُنكر ذلك فكان إجماعًا(7).
وقال ابن فرحون في تبصرة الحكام: وأجمع أهل العلم فيما علمت أن المسلم إذا ارتد أنه يستتاب ثلاثًا، فإن تاب وإلا قتل، وقال حَاشَا عبد العزيز بن أبي سلمة: يقتل المرتد ولا يستتاب(8).
وقال شيخ الأزهر السابق الشيخ جاد الحق علي جاد الحق يرحمه الله في فتوى له عن البهائية وحكم زواج البهائي من المسلمة: أجمع أهل العلم بفقه الإسلام على وجوب قتل المرتد إذا أصر على ردته عن الإسلام؛ للحديث الشريف الذي رواه البخاري وأبو داود: «من بدل دينه فاقتلوه»(9).
ونقل هذا الإجماع أيضاً د. وهبة الزحيلي في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته(10).
ثالثاً: أدلة قتل المرتد
1- عن عكرمة قال: أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعذبوا بعذاب الله»، ولقتلتهم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»(11).
ووجه الاستدلال في الحديث: أن ابن عباس رضي الله عنه رفض الحرق وأقر القتل مستنداً إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(12).
ووجه الاستدلال في الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ترك الدين، وهو الردة، سببًا مبيحًا لدم فاعله.
3- عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث: أن يزني بعدما أحصن، أو يَقتُل إنسانًا فيُقتَل، أو يكفر بعد إسلامه فيُقتل»(13).
ووجه الاستدلال في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر أن من الأسباب المبيحة للدم أن: «يكفر بعد إسلامه»، فجعل الكفر بعد الإسلام سببًا مباشرًا للقتل.
4- عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة»(14).
ووجه الاستدلال في الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من مرقوا عن الدين، أي ارتدوا عنه.
رابعاً: وقفة مع نصوص حرية التدين
إن الآيات والأحاديث التي تتحدث عن حرية التدين تتعلق بالإكراه على الدخول في الإسلام واعتناقه؛ فغير المسلم له مطلق الحرية والاختيار في أن يسلم أو يظل كافرًا، لا أحد يُكرِهه، ولا أحد يُرغِمه، ويدل على ذلك قول الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99)، ولم يقل الله تعالى: حتى يظلوا مؤمنين؛ بل قال: «يَكُونُوا»، أي: يدخلوا في الإسلام، أما إذا أسلم الإنسان طوعًا بلا إكراه، فإنه ليس حرًا في الكفر بعد الإيمان.
خامساً: الحكمة من تشريع قتل المرتد
إن المجتمع المسلم يقوم أول ما يقوم على العقيدة والإيمان؛ فهي أساس هويته، ومحور حياته، وروح وجوده؛ ولهذا لا يسمح لأحد أن ينال من هذا الأساس، أو يمس هذه الهوية، فالكفر بالله تعالى من أعظم الذنوب.
ومن هنا كانت الردة كبرى الجرائم في الإسلام؛ لأنها خطر على شخصية المجتمع وكيانه، فالضرورة الأولى من الضرورات الخمس هي حفظ الدين، ثم يتبعها بعد ذلك حفظ النفس، والنسل، والعقل، والمال.
فالمرتد معلن حرباً على الله والإسلام، ورافع راية الضلال، ويدعو إليها المنفلتين من الشرائع؛ وهو بهذا محارب للمسلمين، يؤخذ بما يؤخذ به المحاربون لدين الله تعالى.
وأخيراً ينبغي أن نؤكد أمراً مهماً؛ وهو أن المرتد لا يُقتل إلا إذا أعلن عن ردته، أما إذا ارتد بينه وبين نفسه فلا علاقة لنا به، ولا نستطيع أن نحاسبه.
________________________________
(1) الخلاصة في أحكام الجزية، المجلد 1، ص 183، جامع الكتب الإسلامية.
(2) تفسير القرطبي (3/ 280).
(3) الطبقات الكبرى (6/ 158).
(4) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/ 134).
(5) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ابن رشد الحفيد، (2/ 376).
(6) الأم للشافعي (6/ 178).
(7) المغني لابن قدامة (9/ 3).
(8) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (2/ 278).
(9) وبهذا جاءت فتوى دار الإفتاء المصرية بثبوت حد الردة، وهذا مفتي مصر السابق، د. نصر فريد واصل، يطالب بإقامة حد الردة على جماعة البهائية.
(10) الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي، (7/ 5577).
(11) رواه البخاري في كتاب «استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم».
(12) رواه البخاري «كتاب الديات»، ومسلم «كتاب القسامة».
(13) رواه النسائي كتاب «تحريم الدم، الحكم في المرتد»، والترمذي (أبواب الفتن)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7641).
(14) أخرجه البخاري (6930)، ومسلم (1066).