تهوَّد أناس من العرب، وتنصَّر منهم أناس آخرون من قبل الإسلام بقرون، وكان كل منهم يمدح دينه ويدعو إليه بالطبع، فلم يعاد الجمهور أحداً منهم أو يحتقره لدينه، بل كان لزعماء اليهود المستعربين وشعراء النصارى من العرب عندهم مكانتهم اللائقة بهم كأمثالهم من المشركين، ولم يكن لليهودية ولا للنصرانية أدنى صولة في مكة، ولا خافها رؤساء قريش على زعامتهم الدينية ولا الدنيوية، فلما قام فيهم محمد بن عبدالله يتلو عليهم القرآن باسم الله زلزلت الأرض بهم زلزالها، وثاروا عليه ثورتهم الصغرى، ثم ثارت الأمة به ومعه ثورتها الكبرى، وهي التي بدلت الأرض، والقلوب غير القلوب، والعقول غير العقول وقلبت نظام الاجتماع العام.
وقد كان فعل القرآن في أنفس العرب وإحداثه تلك الثورة الكبرى فيهم على نوعين؛ أولهما: ما أحدثه من الزلزال في المشركين، وثانيهما: تزكيته للمؤمنين ونزعه كل ما كان بأنفسهم من غل وجهل وظلم وفساد، حتى أعقب ما أعقب من الإصلاح في العالم كله؛ وأمهد لبيان ذلك بكلمة في حالهم في عصر ظهور الإسلام.
بينا مراراً أن الله تعالى قد أعد الأمة العربية -ولا سيما قريش ومن حولها- لما أراده من الإصلاح العام للبشر بكونهم كانوا أقرب الأمم إلى سلامة الفطرة، وأرقاهم لغة في التعبير والتأثير، وأقواهم استقلالاً في العقل والإرادة؛ لعدم وجود ملوك مستبدين فيهم يضعفون إرادتهم ويفسدون بأسهم، ويذلون أنفسهم بالقوة القاهرة، ولا رؤساء دين أولي سلطان روحي يسيطرون على عقولهم وقلوبهم، ويتحكمون في عقائدهم وأفكارهم، ويسخرونهم لشهواتهم، وكانت جميع الأمم ذات الحضارة والملل مستعبدة مستذلة لزعماء هاتين الرئاستين، حاش العرب.
فلما بعث فيهم محمد صلّى الله عليه وسلم بهذا القرآن الداعي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، كانوا على أتم الاستعداد الفطري لقبول دعوته، ولكن رؤساء قريش كانوا على مقربة من ملوك شعوب العجم؛ في التمتع بالثروة الواسعة، والعظمة الكاذبة، والشهوات الفاتنة، والسرف في الترف، وعلى حظ مما كان عليه رؤساء الأديان فيها من المكانة الدينية بسدانتهم لبيت الله الحرام، الذي أودع الله تعظيمه في القلوب من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام،
فرأوا أن هذا الدين الحر يوشك أن يسلبهم الانفراد بهذه العظمة الموروثة، وقد يفضل عليهم بعض الفقراء والموالي، وأنه يحكم عليهم وعلى من يفاخرون بهم من آبائهم بالكفر والجهل والظلم والفسوق، ويشبههم بسائمة الأنعام، فوجهوا كل قواهم ونفوذهم إلى صد محمد عن دعوته ولو بتمليكه عليهم وجعله أغنى رجل فيهم، ولكن تعذر إقناعه بالرجوع عنها بالترغيب، حتى التمويل والتمليك، فقد أجاب عمه أبا طالب لمّا عرض عليه ما أرادوه من ذلك بتلك الكلمة العليا: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته».
حينئذ أجمعوا أمرهم على صده عن تبليغها بالقوة والحيلولة بينه وبين جماهير الناس في الأسواق والمجامع والبيت الحرام، وبصد الناس عنه أن يأتوه ويستمعوا له، وباضطهاد من اتبعه بالدعوة الفردية إلا أن يكون له من يحميه منهم لقرابة أو جوار أو ذمة، فهؤلاء الرؤساء المترفون والمسرفون المتكبرون، كانوا أعلم الناس بصدق محمد وفيهم نزل قوله تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام: 33)، فقد كابروا الحق بغياً واستكباراً للحرص على رياستهم وشهواتهم، وكانوا أجدر العرب بقبول دعوة القرآن لأنهم أدق الناس لها فهماً، وأوسعهم بإعجازها علماً، ولكنهم عتوا عنها عتواً: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) (النمل: 14)، كفرعون وقارون وهامان في آيات موسى.
قلنا: إن فعل القرآن في أنفس العرب كان على نوعين: فعله في المشركين، وفعله في المؤمنين، فالأول تأثير روعة بلاغته، ودهشة نظمه وأسلوبه، الجاذب لفهم دعوته والإيمان به إذ لا يخفى حسنها على أحد فهمهما، وكانوا يتفاوتون في هذا النوع تفاوتاً كبيراً لاختلاف درجاتهم في بلاغة اللغة وفهم المعاني العالية.
فهذا التأثير هو الذي أنطق الوليد به المغيرة المخرومي بكلمته العالية فيه لأبي جهل التي اعترف فيها بأنه الحق الذي يعلو ولا يعلى، والذي يحكم ما تحته، وكانت كلمة فائضة من نور عقله وصميم وجدانه، وما استطاع أن يقول كلمة أخرى في الصد عنه بعد إلحاح أبي جهل عليه باقتراحها إلا بتكليف لمكابرة عقله ووجدانه، وبعد أن فكر وقدر، ونظر وعبس وبسر، وأدبر واستكبر، كما تقدم، وهذا التأثير هو الذي كان يجذب رؤوس أولئك الجاحدين المعاندين ليلاً لاستماع تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيته، على ما كان من نهيهم عنه ونأيهم عنه، وتواصيهم وتقاسمهم لا يسمعن له، ثم كانوا يتسللون فرادى مستخفين، ويتلاقون في الطريق متلاومين.
وهذا التأثير للقرآن هو الذي حملهم على منع أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الصلاة والتلاوة في المسجد الحرام، لما كان لتلاوته وبكائه في الصلاة من التأثير الجاذب إلى الإسلام، وعللوا ذلك بأنه يفتن عليهم نساءهم وأولادهم، فاتخذ مسجداً له بفناء داره فطفق النساء والأولاد الناشئون ينسلون من كل حدب إلى بيته ليلاً لاستماع القرآن.
فنهاه أشراف المشركين بأن العلة لا تزال، وأنهم يخشون أن يغلبهم نساؤهم وأولادهم على الإسلام، حتى ألجؤوه إلى الهجرة فهاجر فلقي في طريقه ابن الدغنة سيد قومه فسأله عن سبب هجرته فأخبره الخبر، وهو يعرف فضائل أبي بكر من قبل الإسلام فأجاره وأعاده إلى مكة بجواره؛ أي حمايته، ومنعه منهم.
وخبره هذا رواه البخاري في باب الهجرة من صحيحه وفيه ما نصه: «فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة (أي أجازته) وقالوا لابن الدغنة: مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون عنه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.
وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عزّ وجلّ».
قلنا: إن هذا التأثير هو الذي حملهم على صد النبي صلّى الله عليه وسلم بالقوة عن تلاوة القرآن في البيت الحرام وفي أسواق الموسم ومجامعه، حتى إنهم كانوا يقذفونه بالحجارة، وهو سبب تواصيهم بما حكاه الله تعالى عنهم في قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت: 26).
وقد أدرك هذا فلاسفة فرنسا؛ فذكر في كتاب له قول دعاة النصرانية أن محمداً لم يأت بآية على نبوته كآيات موسى وعيسى، وقال في الرد عليهم: إن محمداً كان يقرأ القرآن خاشعاً أواهاً متألهاً فتفعل قراءته في جذب الناس إلى الإيمان ما لم تفعله جميع آيات الأنبياء الأولين.
أقول: ولو كان القرآن ككتب القوانين المرتبة وكتب الفنون المبوبة، لما كان لقليله وكثيره من التأثير ما كان لسوره المنزلة.
ومن الشواهد الكثيرة على صحة قول هذا الفيلسوف ما روى أن كبراء قريش اجتمعوا فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا وشئت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فكلمه فيما قالوا عنه، وما يخافون من عاقبة أمره أن يفضي إلى قيام بعضهم على بعض بالسيوف، وعرض عليه كل ما يمكن أن يريده من المال والرئاسة والتزوج بعشر من خير نساء قريش، حتى إذا أتم كلامه تلا عليه النبي صلّى الله عليه وسلم سورة «فصلت» حتى بلغ قوله تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) (فصلت: 13)، قام عتبة فأمسك على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، فلما رجع إليهم وجدوه متغيراً فقالوا قد صبأ (أي مال) إلى محمد وقص عليهم خبره وما وقع من الرعب في قلبه من قراءته، ومما قاله: وقد علمتم أن محمداً، إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.
وفي رواية أنه قال: «كلمني بكلام والله ما سمعت أذناي بمثله قط فما دريت ما أقول له»، كان كل ما يطلبه النبي صلّى الله عليه وسلم من قومه أن يمكنوه من تبليغ دعوة ربه.
____________________________
من كتاب «الوحي المحمدي».