في معركتنا الحضارية طويلة الأمد، يبدو النشء المسلم كأهم سلاح إستراتيجي نملكه، فإذا كان الإنسان هو صانع الحضارة بكل أبعادها، فإن صناعة هذا الإنسان تعني المستقبل الحضاري كله.
وبما أننا نملك قاعدة ضخمة من النشء (ما يقارب من 40% من المسلمين دون الخامسة عشرة)، فكل ما نحتاجه هو أن نحسن إدارة هذا النشء؛ كيف نشكل وجدانه ومشاعره؟ ما الحلم الذي سيرنو إليه؟ ما الأفكار التي ستمثل ركائز عقله؟ من سيحب؟ ولماذا؟ ومن سيكره ويعادي؟ وكيف؟
نحن بحاجة ماسة لأن نبرمج وعي النشء المسلم بحيث يتفق مع عقيدته وأصول شريعته، وهو ما يتطابق مع فطرته النقية.
يأتي وعي النشء المسلم بمقدساته على رأس الأولويات التي ينبغي التنبه لها ونحن بصدد إدارة وصناعة وعي وهوية هذا النشء، بحيث يمتلك حساً إيمانياً مرهفاً في كل ما يتعلق بكل ما هو مقدَّس؛ فينشأ على تعظيم حرمات الله تعالى، ويجفل بشكل تلقائي من أي استهانة (مهما كانت بالغة البساطة) يستشف منها المسّ بما هو مقدَّس.
البيت والمقدَّس
لا شك أن أعمق دروس التربية التي تحفر آثارها في النفس الإنسانية -خاصة النفوس الصغيرة الغضة- هي تلك التي تُعاش بشكل حقيقي حي من خلال القدوة المؤثرة، فعندما ينشأ الطفل في بيت يمتلك الضمير الإيماني وتعلو فيه قيمة المقدس، فإن ذلك يترك في قلبه علامات بارزة لا يمكن أن تمحى مهما تعرض الطفل في مراحل لاحقة من حياته لضغوط وفتن.
بل يمكننا القول: إن احترام المقدَّس وتعظيمه يصبح جزءاً أساسياً من اللاوعي العميق الذي يشكل أغوار الشخصية، فنحن وعن طريق قوة المعرفة نقوم بتشكيل وعي الطفل؛ فنقوم بتعليمه ما هو مقدَّس في ديننا وعقيدتنا؛ فيعظّم القرآن الكريم ولا يمسه بغير طهارة، ويتعامل معه باحترام، ويعظّم شهر رمضان، ويحب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحترم المساجد ويعرف لها قدرها وما يليق بها.
كذلك يتعلق وعيه ببيت الله الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى الأسير؛ حيث صلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالأنبياء والمرسلين إماماً ثم عُرج به إلى السماء، وهذا كله يشكل وعياً عقلياً معرفياً يحتل جزءاً لن يفقد أبداً من ذاكرته ويشكل تشابكات عصبية قوية في دماغه.
لكن قوة المعرفة وحدها لا تكفي ما لم تخالطها جذوة الإيمان وحرارتها فتسري فيها الروح؛ لذلك فإن ما يشاهده الطفل بعينه وما يدركه من سلوك ملموس هو الذي سيفعّل هذه المعرفة في نفسه؛ لذا فإن البيت الذي يعظّم شعائر الله تعالى والمقدسات هو المدد الأكبر لأطفال وشباب يحترمون المقدسات ويعظمونها.
خطوات وتحديات
لا يكفي أن نحب ديننا ورموزه ومقدساته في قلوبنا في حالة من الصمت، بل لا بد أن نعلن عن ذلك، ويجب أن يسمعنا الأبناء؛ وأن نخبرهم بأننا نحب النبي صلى الله عليه وسلم، ونحب «الأقصى» حيث المسجد الأسير، وهنا توجد نقطة بالغة الدقة؛ فبعض الآباء والمربين يرفضون الكلام من شدة الإحباط، حتى إنهم يرفضون متابعة الأخبار؛ لأنها تعزز لديهم شعور العجز؛ وتكون النتيجة النهائية حالة من الصمت القاتل وحيلولة دون وصول المعلومة لعقل الطفل أو الشعور بقيمة المقدَّس لقلبه.
كما أن معرفة ما قد تتعرض له المقدسات يثير في نفس النشء الكثير من التساؤلات، فمشهد المفطرين في نهار رمضان، أو تدنيس اليهود للمسجد الأقصى، أو حرق إرهابي لنسخة من القرآن الكريم؛ تجعل الطفل يسأل أسئلة شائكة، وكبتنا لهذه الأسئلة ونهره عن السؤال لأننا لا نجد إجابة مناسبة؛ يجعل هذه الأسئلة تتعملق داخله، وقد تكون سبباً في مشاعر فاترة تجاه المقدسات، أو حتى تشككه في قيمتها.
لذلك، لا بد من إجابة واضحة وصادقة ومناسبة لعمر الطفل ومقدار نموه النفسي، على أنه لا ينبغي لنا الانتظار حتى يسأل الطفل، بل المبادرة بالنفاذ لعالمه الداخلي وطرح السؤال والنقاش حوله، وتغذية عقل الطفل بالأفكار السليمة والوصول لعالمه الروحي وشحنه بالقوة الإيمانية اللازمة لتكون وسادة الأمان ضد الفتن التي قد تعرض على العقل.
الكلام والسؤال والحوار ليس الطريقة الوحيدة لتوعية النشء بقيمة المقدسات، فالقصة التي تنسج الوجدان يمكن أن تكون المقدسات حاضرة فيها بقوة، سواء كانت قصة تاريخية أو واقعية معاصرة، أو حتى من وحي الخيال الخصب.
والألعاب تعد العمود الفقري لحياة الطفل، وعن طريق اللعب يمكن تعميق قيمة المقدسات؛ بحيث تحتل شغاف القلب وأعماق الذاكرة، لعبة بسيطة كبازل المسجد الأقصى يجمعها الطفل بينما نلقي إليه بمعلومات بسيطة عن المسجد، ولمسة دافئة للصورة (بعد أن تكتمل) محملة بعاطفة جياشة، ودعاء له أن يكون ممن يحرر «الأقصى» ويصلي فيه؛ تترك أفضل الأثر في نفس الطفل.
النشء والمقدسات
إن ربط النشء المسلم بمقدساته ليس حكراً على الأسرة، على الرغم من الدور الحيوي الذي يمكن لها أن تمارسه، فإن هناك معوقات كثيرة وكبيرة يمكن لها أن تعترض دورها ناجمة في أغلبها من خلل في البناء الداخلي لهذا المحضن التربوي، فالظروف الخارجية مهما كانت قاسية ومجحفة أو ظالمة وفاسدة تستطيع الأسرة النجاة منها إذا كان بنيانها الداخلي قوياً، أما إن كان هشاً متصدعاً فيكون الأثر السلبي مضاعفاً؛ وهنا ينشأ أطفالنا وشبابنا لا يحملون إلا رصيدهم من الفطرة دون وعي إيماني ولا اهتمام بقيمة المقدسات.
بل ربما العكس تماماً هو الصحيح، فوفقاً لفلسفة بعض الأسر السعي وراء المال ومستوى المعيشة المرتفع هو الشغل الشاغل، وقضية كقضية فلسطين هي السبب في المعاناة الاقتصادية التي نعاني منها، وربما تقدم معلومات مغلوطة للنشء؛ كالقول: إن لليهود حقاً في القدس، وإن الحرية المطلقة في بلاد الغرب تبرر الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، فبعض الأسر تريد أن تلحق بالغرب؛ حيث هو النموذج الحضاري الأعلى، ومن ثم يتم نقل معلومات مشوشة ومشاعر فاترة باردة عن المقدسات للأبناء.
وبعض الأسر تسحق بين أنياب الفقر والجهل الديني والعلمي لا تشغلها المقدسات في شيء، وبين هؤلاء وأولئك نماذج متعددة يوجد بينهم وبين عقول أبنائهم وقلوبهم ما يشبه حائط الصد؛ لذلك كانت الحاجة ماسة وملحة أن تقوم مؤسسات أخرى بديلة بتوعية النشء المسلم بأهمية المقدسات في حياته، يأتي في المقدمة منها دور المؤسسات التعليمية بمراحلها المختلفة؛ حيث تأثير المعلم الذي ينافس تأثير الوالدين، خاصة في المراحل التعليمية المبكرة، فالمعلم هو أسوة لطلابه، وبغض النظر عن مضمون المناهج التعليمية التي تخضع للعديد من الموازنات، فإن المعلم الذي يمتلك ضميراً يقظاً وحساً إيمانياً مرتفعاً وتعظيماً للمقدسات، يستطيع بث هذه المعاني والأفكار في نفس الناشئة، لا سيما لو كان معلماً للغة العربية أو التربية الإسلامية.
أما المؤثرون على منصات «السوشيال ميديا»، فهم يمتلكون أخطر الأسلحة في اللحظة الراهنة، حيث يستطيعون بناء جيل جديد في تصوراته وأفكاره ومشاعره، وما يحب ويكره، لا تحول بينهم وبين الناشئة والشباب حواجز المكان وتسلط المؤسسات التقليدية، ويمتلكون من أدوات الجذب ما يمكنهم من التواصل مع الفئة المستهدفة بكل بساطة.
لذلك، على أعناقهم تقع مسؤولية ضخمة؛ وهي بث روح الإيمان وتعظيم المقدسات في القلوب، وبالطبع المؤثر الملتزم لا يعمل في فراغ، خاصة أن بنية منصات التواصل مصممة بآلية تميل للترفيه واللهو حتى وصل اللهو بـ«memes» إلى السخرية من بعض الثوابت الدينية؛ لذلك فالمسؤولية التي تقع على عاتق المؤثر المسلم لبث روح اليقظة والوعي بالمقدس ضخمة وهائلة بحجم التحديات التي تواجهه.