المقدسات الإسلامية كانت ولم تزل مستهدفة من قِبل أعداء الإسلام، لعلمهم اليقيني أنها جزء لا يتجزأ من هوية المسلمين، وأن اهتمامهم بها والتفافهم حولها نابع من تمسكهم بهذا الدين.
وعندما نتحدث عن المقدسات، فإننا نتناولها بمعناها أو مضمونها الذي تعارف عليه العرب، وهي المساجد الثلاثة الكبرى التي تُشد إليها الرحال: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وإلا فإن المعنى الحرفي للمقدَّس يتضمن ما هو أكثر من ذلك بكثير.
وإذا كان الواجب على الأمة حماية مقدساتها، فإن أول الطريق إلى ذلك تنشئة أجيال تتربى على حب المقدسات، ليصبح هذا الحب سائراً في دمائهم، وحالة دائمة، ليست مجرد عارض يدق ناقوس حماستهم لفترة ثم يخبو الوهج سريعاً.
المرأة على الخط الأول
كذلك عندما نتحدث عن التنشئة والتربية على حب المقدسات، فإننا نتوجه إلى المربي الأول والأقدر؛ المرأة، التي يقع على عاتقها العبء الأكبر في العملية التربوية.
هناك عبارة متداولة منسوبة لـ«نابليون بونابرت» يقول فيها: «المرأة التي تهز المهد بيمينها تهز العالم بيسراها»! وهو مضمون صحيح، فإذا بحثت في سير العظماء، سوف تدرك بوضوح دور الأم في تنشئتهم وسلوكهم طرق المعالي، ذلك لأن الطفل أكثر لصوقاً بأمه فترة التنشئة، ويقضي معها وقته كله تقريباً، بخلاف الأب الذي يسعى خارج البيت في التكسب وأمور المعاش.
في السنوات الأولى للطفل يكون أكثر ارتباطاً بأمه، وهو الارتباط الذي يواكب فترة قابليته للتشكيل، فالعلماء يقولون: إن شخصية الطفل تتكون خلال السنوات الخمس الأولى من عمره، وهو ما يضاعف من مسؤولية الأم في تربية الطفل.
القدوة أولاً
وإننا إذ نتحدث عن دور الأم في تربية الأبناء على حب المقدسات، فإن أول واجبات الأم في هذا الشأن أن تكون في موقع القدوة لأبنائها.
أوصى الإمام الشافعي، مؤدب أولاد الخليفة، قائلاً: «ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تكرهه»(1).
فالقدوة أنجع الوسائل التربوية، حين يتمثل المربي ما يدعو إليه، ومهما تحدثت الأم عن المقدسات دون أن يلحظ الابن أن هذه المقدسات محل اهتمام بالغ من الأم، فلن يتأثر بما تقول، فلا بد من اقتناع الأم أولاً وتفاعلها مع أخبار المقدسات، سواء بالقراءة التاريخية، أو بمتابعة الأخبار المتعلقة بها، وأن تكون ضمن أحاديث مجالسها.
فرع عن أصل
بيد أنه ينبغي العلم بأن التربية على حب المقدسات إنما هي فرع عن أصل عظيم، وهو الاستقامة على أمر الله تعالى والالتزام بتعاليم دينه، فمن يعظم الله تعالى يعظم شعائره؛ (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32)، وكذلك يعظم كل ما أحب الله تعالى، وكل ما كان له مكانة عند الله سبحانه.
التربية على حب المقدسات حال البعد عن تعظيم الله تعالى والنأي عن الالتزام بشريعته، كالبناء على غير أساس؛ لأن حب ما أحب الله عز وجل نتيجة حتمية لمحبة الله ومظهر من مظاهرها، فينبغي أن تحرص الأم على أن تكون تنشئة أطفالها على حب المقدسات ضمن إطار عام من التربية على الاستقامة، وربط المقدسات بمحبة وتعظيم الله عز وجل.
التاريخ حجر الأساس
فلن تُغرس محبة المقدسات في نفوس الأطفال إلا من خلال تناول البعد التاريخي لها، وكلما كان تاريخ المقدسات حاضراً في أذهان الناشئة؛ ازدادوا قرباً منها وتفاعلاً مع حاضرها، ولذلك حرص المسلمون الأوائل على تعليم أبنائهم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لربطهم به وبمنهجه، وفي ذلك يقول عليّ بن الحسين الملقب بـ«زين العابدين»: «كُنَّا نُعَلَّمُ مَغَازِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نُعَلَّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ»(2).
وإذا اتبعت الأم أسلوباً قصصياً مبسطاً جذاباً مع الأبناء في عرض تاريخ المقدسات، فلا شك أنه سيحدث تأثيراً كبيراً في تعلقهم بها، مع تحري الأوقات التي يكون الأطفال فيها في حال يقظة وانتباه.
فعن المسجد الحرام، يُعرف الأطفال قصة البناء وما يحيط بها من أحداث كقصة أم إسماعيل وبئر زمزم، وقصة الذبح والفداء، ونداء إبراهيم في الناس بحج البيت، وربط ذلك كله بطاعة الله تعالى، والتعريف بحال المسجد الحرام قبل البعثة وفي عهد النبوة، ودور النبي صلى الله عليه وسلم في إنهاء خلاف القرشيين على وضع الحجر الأسود عند إعادة بناء الكعبة، والتعريف بالحجر الأسود وما ورد فيه من أحاديث، والتفاصيل المتعلقة بالبيت الحرام، كحجر إسماعيل ومقام إبراهيم، والصفا والمروة، وأهمية المسجد الحرام بالنسبة للمسلمين كقبلة جامعة وملتقى عام في مواسم الحج والعمرة.
وأما المسجد النبوي، فهناك قصة البناء بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تعاون الصحابة في بنائه مع نبيهم، والدور الذي قام به هذا المسجد في توجيه المسلمين ومناقشة قضاياهم، وكيف كانت أهميته بالنسبة للنبي وصحابته وتابعيهم، وسرد القصص الواردة في السيرة النبوية المتعلقة بالأحداث التي جرت داخل المسجد، وقصة دخول قبر النبي في مجاله، كما يتم التعريف بمحاولات سرقة جثمان النبي صلى الله عليه وسلم عبر التاريخ.
وأما المسجد الأقصى، فإضافة إلى مكان وزمان البناء، يعرف الطفل بأحقية المسلمين به، استناداً إلى واقعة الإسراء والمعراج التي كانت إيذاناً بتسلم المسلمين الريادة والسيادة في هذه البقعة بموجب القرآن؛ (إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)، كما يُعرف الأبناء بقصة فتح المسلمين القدس وروح التسامح التي عاملوا بها أهلها، والحملات الصليبية التي احتُل خلالها المسجد، والمجازر الوحشية التي ارتكبت بحق المسلمين فيها، كما يعرف الطفل بجهود المسلمين في استرداد المسجد الأقصى، وقصة الإعداد لاسترداده التي عمل عليها نور الدين محمود زنكي، وتلميذه صلاح الدين الأيوبي.
كما يعرف الأبناء كيف سقطت القدس في يد الاحتلال الصهيوني، وربط ذلك بتفرق المسلمين، والمحاولات المستميتة من قبل الصهاينة لهدم المسجد الأقصى، وقصص البطولة للفلسطينيين في الدفاع عنه.
وسائل عملية:
1- اصطحاب الأطفال لزيارة المساجد لمن كان من أهل بقاعها، أو يكون ذلك من خلال مواسم الحج والعمرة لمن استطاع ذلك، ليجتمع النظر إلى السمع فيؤصل المحبة في نفوسهم.
2- الاستعانة بمقاطع الفيديو والصور المبثوثة على الإنترنت المتعلقة بالمقدسات، ليشاهدها الأبناء، بعد أن تطلع الأم عليها منفردة لتقييمها أولاً.
3- الاستعانة بألعاب الكمبيوتر التي يتعلمون من خلالها مواقف ومواقع ذات صلة بالمقدسات.
4- تعليق صور للمقدسات الإسلامية أو وضع مجسمات لها في المنزل، ليألف الأطفال منظرها كلما مروا عليها.
5- إنشاء صندوق تبرعات يحمل اسم «أنقذوا الأقصى»، يُشجع الأبناء على وضع جزء من مصروفهم لادخاره في هذا الصندوق نصرة لـ«الأقصى».
6- جمع الأم أبناءها من آن لآخر للدعاء بأن يحمي الله تعالى المقدسات ويحرر المسجد الأقصى، ويؤمّنون هم على دعائها.
7- يمكن للأم أن تطلب من أبنائها كتابة موضوع عن الأقصى على فترات متباعدة.
8- الاجتهاد في تعريف الأبناء ما يستجد من أخبار متعلقة بالمقدسات الإسلامية وبطريقة تناسب أعمارهم.
كلمة أخيرة
ربما يتضمن العمل بهذه التوجيهات لوناً من ألوان المعاناة التي تتحملها الأم رغم كثرة أعبائها المنزلية خاصة إذا كان لها عمل خارج إطار المنزل، لكن الهموم بقدر الهمم، والقضية تستحق المعاناة والتعب، وليس هناك بديل عن الأم في العملية التربوية بصفة عامة، وتنشئة الأطفال على حب المقدسات بصفة خاصة، لذلك حري بالعاملين في حقل الدعوة أن يركزوا على تأهيل المرأة لأن تقوم بهذا الدور على خير وجه.
______________________
(1) صفة الصفوة، ابن الجوزي، (2/ 255).
(2) السيرة النبوية لابن كثير، (2/ 355).