تنزلت الشرائع السماوية على يد رسل الله وأنبيائه عليهم صلوات الله وسلامه لتنظم حياة الإنسان على الأرض، تنظم علاقته بربه عبادة واستسلاماً ويقيناً داخل بوتقة الإيمان والتوحيد وحدود الشريعة الإسلامية والإيجابية المحركة للمسلم، ثم تنظم علاقته بنفسه تأديباً وتهذيباً ورعاية وتنظيماً وتعليماً وتدريباً وارتقاءً وإسعاداً، ثم علاقته بالآخرين آباء وأبناء وجيرانًا ومسلمين وآخرين انطلاقاً من المسؤولية الواعية والحقوق الواجبة.
ما الإيجابية؟
الإيجابية هي الطاقة التي تشحذ الهمة، وتذكي الطموح، وبالتالي تدفع إلى البذل والعمل، وانتهاز الفرص، واستثمار الواقع.
وفي «لسان العرب» (1/ 793) في معنى الإيجاب: «أوجبه إيجاباً أي لزم وألزمه»، والفقه يعضد المعنى، فالإيجاب أن يقول: بعتك أو ملكتك أو لفظ يدل عليهما، والقبول أن يقول اشتريت أو قبلت ونحوها.. فالإيجاب هنا الأمر الذي يترتب عليه عند القبول اللزوم والوجوب، ومن الوجوب تأتي الحركة الإيجابية التي تستلزم التقدم والتفاؤل والتميز والطموح وغيرها من المعاني الحركية الجيدة والنافعة للنفس وللناس.
الإيجابية مع الله
وكي تكون الإيجابية مع الله حالة مستمرة وطباع دائمة، فيجب على المسلم أن يستحضر ربه في كل حالاته، وقد وصفها الله عز وجل في كتابه العزيز بدقة قائلاً: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام).
وتلك هي قمة الإيجابية أن تتفاعل مع الله بكل حسك وبكل خلجاتك وفي كل أوقاتك وفي كل سكناتك مع أوامر الله عز وجل، وأن تتعبد لله سبحانه بكل كيانك، وأن تجعل الدنيا كلها محراباً للعبادة، بما فيها حياتك الدنيوية بكل حركة فيها.
ويقول كذلك جل شأنه: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24).
فالحب ليس ادعاء، والإيجابية مع الله ليست كلمات تقال، بل هي فعل محرك يجعله سبحانه وتعالى في مقدمة اهتمامات الإنسان وأولوياته في ابتغاء الرضا والحب.
والمسلم الحق هو الذي يوجه دفة حياته حيث أمره ربه لا حيث يريد الناس ولا حيث يريد هواه، كما قال الحبيب المصطفى: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».
ومن الإيجابية مع الله عز وجل أن تحافظ على العبادات في أوقاتها كما أمرنا بها سبحانه، لا كما نحب، ولا وقتما نفرغ لها، وتتمثل قيمة الطاعة الكاملة لقيمة العبادات على وقتها في تحصيل أجرها كاملاً، وبركتها كاملة.
الإيجابية مع الذات
يقول الله عز وجل: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، يقول سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية: «فإنه لا يغير نعمة أو بؤس، ولا يغير عزاً أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة.. إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم» (في ظلال القرآن، 4/ 2042).
وقد كرم الله عز وجل الذات الإنسانية ووضع بها القدرة على إسعاد الإنسان أو إتعاسه حسب الاتجاه الذي يختاره بموجب حريته واختياره، فيقول سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس).
خطوات نحو الإيجابية
اتفق العلماء على أن التفكير المركز والاستغراق في أمر ما أحد القوانين الرئيسة في توجيه حياة الإنسان سواء سلبياً أو إيجابياً.
يقول برايان تريسي، في كتابه «علم نفس النجاح» (ص 27): إن ما نفكر فيه تفكيراً مركزاً في عقلنا الواعي ينغرس ويندمج في خبرتنا»، ويقول: «غيّر تفكيرك وغيّر حياتك، أياً كان ما تعتقده فسيتحول إلى حقيقة عندما تمنحه مشاعرك وكلما اشتدت قوة اعتقادك وارتفعت العاطفة التي تضيفها إليه تعاظم بذلك تأثير اعتقادك على سلوكك وعلى كل شيء يحدث لك.. يظل الأشخاص الناجحون والسعداء محتفظين على الدوام باتجاه نفسي من التوقع الذاتي الإيجابي».
والصورة عند المسلم أوضح من كل تلك المصطلحات والنظريات، فيقول الله عز وجل على لسان نبيه في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرّب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» (رواه البخاري ومسلم)، قال ابن حجر: «أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به» (فتح الباري).
فمن هنا ينبغي للمسلم أن يطور في ذاته قانون التوقع الإيجابي للأمور، وأن يحسن ظنه بربه حتى ولو كانت الظروف المحيطة به في غاية الصعوبة والسوء، وقد ضرب نبي الأمة عليه الصلاة والسلام أعلى درجات حسن الظن بالله يوم الخندق؛ حيث استعصت صخرة على المسلمين في عملية الحفر، فيتقدم النبي قائلاً: «بسم الله» وضربها فبرقت مرتين ليكبر: «قصور الشام ورب الكعبة، قصور فارس ورب الكعبة».
وهكذا حين يكون لا أمل، لا مفر، يأخذ النبي صلي الله عليه وسلم بنظر أصحابه نحو الهدف البعيد لتهون عليه مشقة الطريق القريب، فلتبرمج نفسك على غرس الفسائل، ولو كانت الأنفاس الأخيرة.
الإيجابية مع الناس
الناس والمجتمع والمحيطون هم المستهدفون عامة من العمل العام سواء كان هذا العمل مطالبة بحقوقهم أو محاولة لتغييرهم ليقوموا هم أنفسهم بتغيير حياتهم للأفضل.
وهناك قواعد للتعامل مع الناس في عملية الإصلاح، وهي:
أولاً: أنهم يستحقون التغيير إلى الأفضل بموجب مسؤوليتنا الدعوية عنهم.
ثانياً: أنهم -وإن بدا للناظر عكس ذلك- قادرون على التغيير إن ساعدهم أحد وأخذ بأيديهم.
ثالثاً: لا بد من الاعتراف أن الشعوب الآن ما عادت بالجهل والانعزال الذي سبق عصر الإنترنت والسماوات المفتوحة.
رابعاً: الانطلاق من المسؤولية الشرعية في عملية التغيير.
خامساً: على المصلح أن يعي أن طبيعة الناس الاختلاف، وعليه أن يتقبلهم كما هم، وعليه فقط أن يشاركهم في مواجهة أخطائهم داخل إطار احترام إنسانيتهم حتى لو كانوا أطفالاً صغاراً، ويستمع إليهم باهتمام، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت» (رواه البخاري).
إن الناس بالمعنى الدقيق هم الأهل والجيران والمعارف وأخوة الدين وأخوة الإنسانية، ولكل هؤلاء حقوق يجب تأديتها، أقلها إنقاذهم من النار وغضب الله.
وإيجابية المسلم ليست خياراً، وإنما وظيفة وصفة أخلاقية وسلوكية يجب التحلي بها حتى يلقى ربه وهو عنه راضٍ خاصة في أزمنة ضعف الأمة للنهوض بها إنقاذاً لها، وللعالم من حولها.