رغم أن اليهود حرَّموا الربا فيما بينهم، فإنهم تحايلوا في التعامل به بينهم، وما استباحوه مع غيرهم رد عليهم، حيث سمح بعض رجال التلمود للمحتاج أن يقترض بربا حتى لا يضار، كما تم السماح بالتعامل بالربا بين العلماء اليهود إذا كان القرض يشمل مواد المعيشة مع اشتراط ألا يزيد الربا عن الخُمس، وأن تكون النية في إعطاء الربا على أنه هدية مع التراضي عليها قبل الاقتراض، وألا يتكرر العمل بهذه القاعدة حتى لا تسري بين العامة والجهلة.
كذلك تم السماح للطلبة اليهود أن يقترضوا بربا من مدرسهم اليهودي على أن يعطوه الزيادة كهدية، فضلاً عن السماح بإقراض أموال اليتامى بربا، بل تم التحايل بتوسيط غير اليهودي في الإقراض بين اليهودي واليهودي، حيث يقرض اليهودي الأول غير اليهودي مبلغاً من النقود بربا، على أن يقوم بدوره بإقراض اليهودي الثاني، ومن هنا ابتكروا البنوك وسيطاً حتى لا يقرض اليهودي أخاه بربا بصورة مباشرة.
رغم أن اليهود حرَّموا الربا فيما بينهم فإنهم تحايلوا في التعامل به مع بعضهم بعضاً
ولم يتوقف الأمر عند هذا، بل تطورت الأمور وأصبح أكل اليهود للربا شيئاً مقبولاً فيما بينهم، وليس مع غيرهم فقط، مبررين ذلك بحاجة النشاط الاقتصادي لسعر الفائدة.
أما «العهد الجديد» فقد جاء فيه: «إذا أقرضتم لمن تنتظرون منهم المكافأة فأي فضل يعرف لكم؟.. ولكن.. افعلوا الخيرات وأقرضوا غير منتظرين عائدتها، وإذاً يكون ثوابكم عظيم» (الآيتان 34-35 من الفصل 6 من إنجيل لوقا).
أكثر أشكال الجشع
وأجمع رؤساء الكنيسة ومجامعها على حرمة الربا، بل إن الآباء اليسوعيين الذين يتهمون غالباً بالميل للرخص والتسامح في مطالب الحياة كانت عباراتهم في شأن الربا صارمة قاطعة، واعتبروه أكثر أشكال الجشع وحب المال بغضاً وإثارة للاشمئزاز، حتى قال «سكوبار»: «إن من يقول: إن الربا ليس معصية يعد ملحداً خارجاً عن الدين»، وقال الأب «بوني»: «إن المرابين يفقدون شرفهم في الحياة الدنيا، وليسوا أهلاً للتكفين بعد موتهم».
وقد أقر هذه النظرة الدينية القانون المدني الأوروبي عام 789م (مرسوم «إيكس لاشابيل»)، وظلت المذهب الوحيد في أوروبا خلال العصور الوسطى، ولكن مع ظهور عصر النهضة بدأت تفقد تلك النظرة بريقها شيئاً فشيئاً، فتم في العام 1593م إصدار تشريع يبيح استثمار أموال القاصرين بالربا بإذن القاضي، وظهرت ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر اعتراضات على تلك النظرة الدينية من «كالفان» إلى «مونتيسكو»، بل إن «لويس الرابع عشر» اقترض بالربا ليسدد ثمن «دانكرك» في عام 1662م، كما تعامل البابا «بي التاسع» بالربا في عام 1860م.
ولم تكن عملية الانتقال للربا في بدايتها علنية أو لحظية، بل إنها استمرت في بلدان أوروبية مختلفة من عشر سنوات حتى بضعة قرون، وذلك في ظل وجود سلطة شكلية مطلقة للكنيسة الكاثوليكية في روما، وموقف مزدوج تجاه الربا.
أجمع رؤساء الكنيسة على حرمة الربا واعتبروه أكثر أشكال الجشع بغضاً وإثارة للاشمئزاز
فمن ناحية ظلت الكنيسة متمسكة بتشددها في التحريم بحق المسيحيين، ومن ناحية أخرى تعاملت بتساهل مع النشاط الربوي للأشخاص الذين لم يكونوا تحت كنفها، لاسيما اليهود الذين كان الربا مهنتهم الرئيسة في أوروبا منذ زمن الحملات الصليبية؛ وذلك لأن الملوك والأمراء وكبار رجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية كانت لهم مصالح مع هؤلاء المرابين اليهود، حيث كانوا يلجؤون إلى خدماتهم، كما كانت أرباح وأموال المرابين اليهود ضرورية من أجل تزويد خزينة الملوك والأمراء بالمال.
ولم يتوقف الأمر على هذا، بل تحول موقف الكنيسة الكاثوليكية تدريجياً تجاه المرابين المسيحيين فلم يعد متشدداً، وذلك لأن الأديرة والرهبانيات الكاثوليكية وبعض الأساقفة وكذلك بعض الأشخاص من المحيطين ببابا الفاتيكان كانوا يمارسون الربا دون علانية من خلال اعتمادهم على وسطاء من المرابين اليهود عند قيامهم بإعطاء قروض بالفائدة، وبذلك تم عملياً إنشاء آلية للتعاون المتبادل بما يحقق مصالح الطرفين.
وقد حاول بعض ممثلي النخبة اللاهوتية في الكنيسة الكاثوليكية أن يجد التبرير العقائدي لهذا التعاون، بينما اعترض آخرون بشدة على هذه الممارسات.
الكنيسة ظلت متمسكة بتشددها في تحريم الربا بحق المسيحيين ولكنها تعاملت به مع اليهود!
تسويغ لاهوتي
وعادة ما ارتبطت أولى المحاولات لإيجاد تسويغ منطقي ولاهوتي للربا باسم عالم اللاهوت السكولائي «توما الأكويني» (1225 – 1274م)، فمن جهة، أدان بطريقة عادلة المرابين اليهود؛ إذ ذكر أنَّ المرابين لا يتاجرون في حقيقة الأمر بالنقود وإنما بالزمن، فالمقترض لا يحصل على نقود بقدر ما يحصل على مدة زمنية تمتد من لحظة تسديد الدين، ولكنه من ناحية أخرى سمح بجواز الحصول على مكافأة، أو تعويض أو عمولة مقابل إقراض المال لأجل إنجاز عمل تجاري يدرُّ ربحاً للمقترض، واعتبر بذلك الفائدة نوعاً من الأجر، وإن كان في الوقت نفسه لم يجد جواباً مقنعاً وواضحاً عن السؤال: هل يجب على المقرض أن يطالب بالفائدة في حال لم يكن هناك ربح من المشروع الذي تم استثمار النقود فيه؟
لقد أكد ثلاثة من رجال الفكر الاقتصادي؛ وهم (Hebert, Ekelund,and Tollison) في دراسة لهم عن الربا في أوروبا بالعصور الوسطى أن أحد أسباب التغير في موقف الكنيسة الكاثوليكية في روما هو مصالحها المادية.
فقد استخدمت عقيدة تحريم الربا في البداية حتى تحصل على ما تريد من مال ضروري بلا تكلفة، ثم تغير الأمر بعد ذلك حينما أصبحت الكنيسة على درجة عريضة من الثراء وأصبحت منافساً في سوق القروض، وربما كان هذا أحد العوامل التي أدت إلى تعديل الموقف المتشدد من تحريم الفائدة، ولكنه يجب ألا يؤخذ على أنه العامل الوحيد أو الرئيس؛ ذلك لأن مجموعة العوامل الأخرى التي تمثلت في تطورات فكرية (العلمانية) واقتصادية (تطور النشاط التجاري) كان لها دور مهم لا يمكن إهماله أو التقليل منه في تفسير موقف كنيسة روما الكاثوليكية.