قال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ {69} لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) (يس)، ولعل المتدبر لكتاب الله تعالى يجد التفريق الجلي بين مسلك الشعراء القائم على المبالغات وعدم الدقة الذي لا ينبغي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومسلك القرآن المبين الدقيق الفصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذه الإبانة لا تدع للمشكك فيها أو الراغب عنها أي عذر، فهي حجة على جميع الخلق، والحجة علامة ظاهرة لا ينكرها إلا جاحد ككون نور الشمس حجة على وجود النهار وضوء القمر حجة على وجود الليل، وكما أن كتاب الله حجة على جميع الناس بوجوب الإيمان بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وصحة ما في كتابه الكريم، فكذلك بعض هذا القرآن حجة في الفصل بشأن أي خلاف قد يحصل؛ (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (الشورى: 10).
وهذه آية من كتاب الله هي حجة في عدة مسائل لا يسع الخلاف فيها، فهي عمدة في مسائل الإيمان؛ قال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل: 106).
وفي الآية إثبات ثلاثة أصول في عقائد أهل السُّنة والجماعة، وهي من الإجماع الذي لا يجوز مخالفته:
1- تسمية القول والعمل إيمانًا وكفرًا -تمامًا- مثل الاعتقاد.
2- تلازم القول أو العمل مع الاعتقاد من حيث الأصل.
3- جواز انفكاك هذا التلازم حال الإكراه.
فأما الأولى: فقد سمّت الآيةُ القول والعمل كفرًا وإيمانًا (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ)، وعلم بيقين أن المقصود هنا هو القول والعمل لا الاعتقاد بدلالة قوله (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ)، فلا يكون الإكراه على الاعتقاد الباطن، وإنما على الظاهر من القول والعمل، ويزيد ذلك بيانًا نزولها فيمن أكرهوه على سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عمار رضي الله عنه، ففعله هذا عمل ظاهر.
وأما الثانية والثالثة: فقد استثنت الآية الإكراه من دلالة الظاهر (القول والعمل) على الباطن (الاعتقاد) شرط طمأنينة القلب بالإيمان، وذلك في قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)، بخلاف الأصل من التلازم بين العمل الظاهر والاعتقاد الباطن، (وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً)، فعُلم أن كل من لم يكن مكرهًا فقد شرح بالكفر صدرًا.
ونخلص مما سبق استحالة أن يكون قائل القول أو الفعل مناقضًا للاعتقاد إلا إن كان في حالة خاصة ذكرها القرآن وهي الإكراه وما في حكمه، فالمكرَه ممن عذره الله سبحانه وتعالى طالما كان كارهاً بقلبه ما قاله بلسانه، وفي ذلك قال ابن جرير الطبري رحمه الله: «حدثني عليّ بن داود، قال: حدثني عبدالله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه، فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم» (جامع البيان 17/ 305).
وينبغي أن يعلم أن ما سبق معلوم من دلالة الآية وإجماع أهل السُّنة والجماعة في أن الإيمان اعتقاد وعمل وأيضًا من سبب نزول هذه الآية الكريمة، فقد نزلت كما هو معلوم في عمار بن ياسر رضي الله عنه حين طالبه المشركون أن يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأجابهم، وقد ظن أنه كفر بذلك فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فسكت عنه، ثم نزلت الآية مبينة صحة إيمانه طالما اطمأن قلبه به حال الإكراه، قال البغوي رحمه الله: «(مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ) قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عمار، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسراً وأمه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة فقتلت، وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً.
قال قتادة: أخذ بنو المغيرة عماراً وغطوه في بئر ميمون، وقالوا له: اكفر بمحمد، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عماراً كفر فقال: كلا إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما وراءك؟»، قال: شر يا رسول الله، نلت منك وذكرت آلهتهم، قال: «كيف وجدت قلبك؟»، قال: مطمئناً بالإيمان، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت»، فنزلت هذه الآية. (تفسير البغوي 3/ 98).
ولا شك أن هذه العقائد المرضية التي كان عليها سلف الأمة الصالح منجية من الإفراط والتفريط على حد سواء، نسأن الله تعالى أن يمسكنا بصحيح الاعتقاد حتى الممات؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.