منذ هبط آدم عليه السلام على الأرض، شاء الله تعالى أن يجعلها ميداناً للصراع بين الحق والباطل، قال تعالى: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (طه: 123)، وقال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر: 6)، وكانت جريمة القتل الأولى على الأرض بين ابني آدم تعبيراً عن هذا الصراع الذي بدأ مبكراً، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {27} لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ {28} إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ) (المائدة).
ولقد عاش الأنبياء جميعاً هذا الصراع، بداية من نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي عاش الصراع في جميع مراحل حياته قبل البعثة وبعد البعثة!
وقد تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لعنت الكثيرين من أهل الباطل، وكان على رأس هؤلاء يهود المدينة -بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع- الذين تآمروا على الرسول صلى الله عليه وسلم وحاولوا قتله مرة بإلقاء الحجر على رأسه، ومرة بدس السُّم في طعامه!
رسالة إلى غزة
يا أهل غزة، أنتم تعيشون الآن هذا الصراع، فأنتم المعنيون بهذه الرواية، قال عبدالله بن الإمام أحمد: وجدت بخط أبي، ثم روى بسنده إلى أبي أمامة قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك»، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس»(1).
هكذا يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه ستظل فئة من أمة الإسلام منتصرة غالبة، وهذه الفئة معانة من الله، منصورة على من خذلها وحاربها، والهزيمة والخذلان عاقبة من حاربها أو عارضها، وسيظلون على هذه الحال إلى يوم القيامة طائفة بعد طائفة، وهذا مما يدل على أن الحق لا ينقطع في أمة الإسلام، والحديث بيَّن لنا أن هذه الطائفة موجودة ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
فأنتم يا أهل غزة أهل الحق، والصهاينة هم أهل الباطل، أنتم أولياء الرحمن، وهم أولياء الشيطان، ولن يتخلى الله تعالى عن أوليائه.
أنتم الأعلون
إن آيات سورة «آل عمران» (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران) نزلت بعد هزيمة المسلمين في غزوة «أحد»، وكانت تعزية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام الطبري في تفسيره عن الزهري: كثر في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم القتل والجراح، حتى أصاب كل امرئ منهم اليأس، فأنزل الله عز وجل القرآن، فواسى فيه المؤمنين بأحسن ما واسى به قومًا كانوا قبلهم من الأمم الماضية، فقال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، فجاءت هذه الآية تعزية لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحثًا لهم على قتال عدوهم، ووعدًا لهم بالنصر والظفر عليهم.
يا أهل غزة، لا تهنوا ولا تحزنوا لِما أصابكم من هذا العدو الهمجي وأنتم الأعلون عقيدة، فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشهواتهم ولمعتقداتهم المحرفة، أنتم الأعلون منهجاً، فأنتم تسيرون على منهج الله تبارك وتعالى، وهم يسيرون على منهج الماسونية العالمية، والتلمود المحرَّف، أنتم الأعلون دوراً في الحياة، فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، الهداة لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن النهج، ضالون عن الطريق، أنتم الأعلون أخلاقاً، فلقد رأى العالم كله التزامكم بوصية رسولكم صلى الله عليه وسلم: «اخرجوا بسم الله، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع»(2)، ورأى العالم همجية عدوكم الذي يقتل الأطفال والنساء والشيوخ، بل تعدى إجرامه إلى قذف المستشفيات كما رأينا في مستشفى المعمداني.
ومكانكم يا أهل غزة في الأرض أعلى، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون، فإن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون، وإن كنتم مؤمنين حقاً فلا تهنوا ولا تحزنوا، فإنما هي سُنَّة الله تعالى أن تُصابوا وتُصيبوا، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص، وهذا ما أكده الله تعالى في الآية التالية، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 142).
ولقد طمأننا الله تعالى بقوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 145).
يا أهل غزة، إن قلوب المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها معكم؛ لأنكم تدافعون عن دين هذه الأمة، ومقدساتها، وشرفها، وعرضها.
__________________________
(1) أخرجه الطبراني، وقال الهيثمي في المجمع ورجاله ثقات.
(2) رواه أحمد (2728)، والبيهقي (17933)، وقال الهيثمي في المجمع: رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الكبير والأوسط إلا أنه قال فيه: «ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة ولا شيخًا».