تعرَّف «النخوة» بأنها: الحماسة والمروءة، وهي قيمة أخلاقية عظيمة، وصفة عربية أصيلة تميّزت بها مجتمعاتنا الإسلامية ويطلق عليها الشهامة؛ بمعنى: الفزعة لنجدة الملهوف، ونصرة المظلوم، وتقديم المساعدة للمحتاجين، مع القدرة على احتمال المشاقّ لدفع الضُّرِّ عن الآخرين، وهي من تمام الرجولة؛ لذا خُصَّ بها الرجال دون النساء، قال ابن سيده:
شهمٌ إذا اجتمع الكماةُ وألهمت أفواهها بأوسطِ الأوتارِ
النَّخوةُ في الإسلام
والنَّخوةُ في الإسلام خلقٌ ممدوحٌ، وهو صفة الأنبياء والمرسلين، فالقرآن الكريم يتحدث عن موقف موسى عليه السلام مع ابنتيْ شعيب عليه السلام؛ حيث لم ينتظر حتى تُزاحمَ الفتاتان الرجالَ لملء دلوهما، بل نهض مسرعًا وقد حرّكته مروءته فسقى لهما دون انتظار أجرٍ أو شكر؛ (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ {23} فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص).
ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم كان مثالًا في النخوة والشهامة وتلبية نداء الملهوفين؛ إذ رغم الأذى الذي كان يأتيه من قريش لم يغلّ يده عندما طلبوا منه المساعدة، جاءه أبو سفيان قائلًا: يا محمدُ، إنكَ تَأمُرُ بطاعَةِ اللهِ وبصِلَةِ الرحمِ، وإنَّ قومَكَ قد هَلَكوا، فادْعُ اللهَ لهُم. (رواه البخاري)، فلم يرفض، بل دعا لهم؛ توكيدًا لمحامده صلى الله عليه وسلم، وأن نجدة الغير خلق إنساني، وهو من صميم الإسلام.
غزّةُ وصناعةُ النَّخوةِ
وقد أظهرت الحربُ على غزة، التي اشتعلت عقب عملية «طوفان الأقصى»، الوجه المشرق لهذا الخلق؛ فمن كان يظن أن مجتمعًا فقيرًا وبهذه الكثافة السكانية العالية يصبر على احتمال الآلة العسكرية الصهيونية وما أحدثته من خسائر في الأرواح والمباني والممتلكات لا يحصيها العدُّ، إلّا أنه مجتمعٌ فيه مروءة وإيثار وقدرة هائلة على الاحتمال، وهي ذاتها علامات النَّخوة ودلائل الرجولة، لم نسمع شكاوى للسكان كالتي تُسمع عادة في أجواء الحروب، ولم نرَ هلعًا ولا جزعًا ولا أسًى رغم الحصار وشح الطعام وندرة مياه الشرب والحرمان من العلاج وهدم المأوى وفقد الآباء والأبناء، بل رأينا تعاونًا وتضافرًا يُعجزان الواصفَ عن وصفهما.
فالنازحون من أبناء أحياء الشمال يقابلهم أبناء الجنوب بالطعام والماء والدواء، والمأوى والغطاء، والكلُّ متعايشون مع الأوضاع الكارثية؛ ففي المدرسة الواحدة أو المشفى الواحد هناك آلاف من المهجّرين تستوعبهم أماكن محدودة ودورات مياه معدودة، ورغم ذلك تسير الحياة؛ ما يؤكد أن هؤلاء ليسوا ككل البشر، بل شعبٌ رائدٌ فريدٌ، سمتُه الرجولة والشهامة فلا يعرف التضعضع والوهن، ولا يأسى على ما فاته من ولدٍ أو متاع.
مشاهد وصور
أخ يسرع لتغطية رأس شقيقته التي خرجت للتو من تحت الأنقاض بعد أن استُهدف مبنى العائلة بصاروخ مدمّر، شابّان يحملان مسناً ويخرجان به من موقع يتعرّض للقصف غير آبهيْن لما قد يصيبهما من القذائف المتواصلة، شابٌّ يصنع الطعام للنازحين على نفقته رغم إمكاناته المحدودة، صبيٌّ يغني لعجوز جلست حزينة أمام بيتها المدمّر ليسرِّيَ عنها ويذكِّرها بعِوض الله لها، وبالفعل لم يتركها إلا وقد علتها ابتسامة الحمد والرضا.
غيضٌ من فيضٍ من مشاهد وصور حصرية لشعب غزة الأبي وهو يجود بنفسه، ويقدم كل ما يملك من دعم مادي –على قلّته- ودعم معنوي، وهو كثير؛ ليظهر المعدن الثمين لهذه الطائفة المعاصرة من المضحين الصامدين، الذين ضربوا المثل في العزّة والوفاء لدينهم ووطنهم.
ولم تحرفهم المجازرُ على مدار الساعة عن التعالي على الجراحات، أو الاستمساك بحقهم في استرداد أرضهم ومقدساتهم المسلوبة، وقد دفعوا بأبنائهم وعائلاتهم فداء لهذه الأرض وتلك المقدسات، وآثروا العيش في الآلام والمعاناة كمعبر للعيش في كرامة مرفوعي الهامة يحدوهم اليقين بتحقق موعود الله لهم بالغلبة على عدوّهم ووراثة الأرض من بعد مغتصبيها الملعونين.
شعوب مشبّعة بالنخوة والبطولة
وأظهرت الحرب مروءة شعوبنا العربية والإسلامية، وشجاعتها ونخوتها، التي لا تقلّ عن نخوة إخوانهم الفلسطينيين، لقد هبّت الشعوب –كعادتها- من أول ساعة لنجدة إخوانهم، وما منعها من القتال بجوارهم صفاً واحداً ومن ثم القضاء على العدو الديني والتاريخي، إلا تلك الحدود التي صنعها المحتلّ وعليها جيوش من حرّاس الأنظمة الذين باتوا حلفاء للصهاينة، ولو شققتَ عن قلوب شعوب العرب والمسلمين لوجدتها تتحرّق شوقاً إلى الجهاد، وبيع كل ما تملك في سبيل الله وفلسطين، ولو فُتحت الحدود والمعابر لتكاثر العرب والمسلمون على الصهاينة أهل البغي والعدوان وهزموهم بإذن الله.
إن هذه الفزعة من الشعوب، واللهفة على مناصرة الأخ الفلسطيني ولجم عربدة العدوّ أثرٌ من آثار العقيدة الإسلامية في النفوس، وهي آثار لا يمحوها الزمن، وقد ظنّ الظانُّون أن الأمة لم تعد سالمة، وأنها فقدت عناصر قوّتها وسرَّ نهضتها، فجاءت هذه الحرب لتخيِّب تلك الظنون، ولتؤكد أن المروءة لم تضع من أمة محمد، وأن خيريتها باقية إلى يوم القيامة رغم مظاهر الضعف والهوان، هذا وعدُ الله، لا يخلف الله وعده، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.
مهانة ووضاعة الأنظمة
وفي مقابل تلك الكرامة والرجولة التي تحلّت بها شعوبنا العربية والإسلامية وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، هناك حالة من التردي والضياع لدى الأنظمة الرسمية التي فقدت نخوتها فتخلّت عن القضية، وبات بينها وبين الشعوب فاصل زمني وفاصل أخلاقي من الصعب استدراكهما؛ وبهذا لم تعد هذه الأنظمة تمثل الأمة ولا تعبر عن حقيقتها ومشاعرها، تضنُّ بالإنسانية على الجيران والإخوان من أجل مصالح دنيوية تافهة ألزمتهم الإذعان لعدوّنا، والتذلل والخضوع للقوى الكبرى الداعمة له، فرضخوا لتعليماتهم، وجبُنوا عن قول الحق والوقوف بجانب المظلوم؛ ما أطمع الجميع فينا، وتداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، ليس من قلّة ولا قدرات، ولكن لجُبن الذين غلبوا على أمرنا، ولتخلّيهم عن أنفة المسلمين وحميتهم ونخوتهم ورجولتهم.