كانت بداية بني إسرائيل في فلسطين التي ولدوا وترعرعوا وشبوا على ترابها، حيث كانت تلك الأرض شاهدةً على سوء طباعهم ومكرهم وكيدهم لأخيهم الطفل البريء يوسف، حين غلت مراجل الحقد والحسد في صدورهم فتخلصوا منه بطرحه في غيابة (قعر) بئر مطويّ مظلم على طريق القوافل بين مصر والشام، دون أدنى مراعاة لمشاعر هذا الطفل المسكين.
ألقوه في البئر وارتحلوا عنه وارتاحوا منه، وهم يظنون أن قصة يوسف قد انتهت للأبد، ولا يدرون أن الله سيلجئهم إليه أذلاء صاغرين حال كونه عزيزًا أمينًا على خزائن الأرض، ليخبرهم بما فعلوه معه يوم أن كان طفلًا صغيرًا؛ (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) (يوسف: 15).
وتلك الأيام نداولها بين الناس
لقد دارت الأيام دورتها، بعدما تنقلت بيوسف من محنة إلى محنة، ومن فتنة إلى أخرى، وهو صابر محتسب مراقب لربه جل جلاله، فتحولت المحن إلى منح، والفتن إلى نعم، ليجلس يوسف بعد الرق والسجن على سُدّة الحكم وخزائن الأرض.
وفي مشهد فذ، يدخل الإخوة العشرة على أخيهم يوسف العزيز، فيعرفهم دون أن يعرفوه، وأنى لهم أن يعرفوه وهم على يقين أن يوسف إن لم يكن ميْتًا فهو عبدٌ يباع في سوق الرقيق.
بنو إسرائيل استقروا بمصر وأغدق العزيز عليهم من الخيرات وأقطعهم أرضاً بأخصب البقاع
لقد استعلى يوسف على كل آلامه وجراحه النازفة، وتعالى على أليم ذكرياته، وراح يعاملهم بأخلاق النبوة، بكل كرم وترحاب، بل لقد بالغ في إكرامهم وأجزل لهم العطاء؛ (وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ) (يوسف: 59)، وأمرهم أن يأتوا له بأخيهم راغبين أو راهبين.
وانطلق القوم قافلين ودخلوا على أبيهم وأخبروه بما حدث معهم، فلم يزالوا به حتى أقنعوه بأخذ أخيهم الأصغر إلى عزيز مصر، وبعد أيام عادوا بأخيهم إلى مصر مرة أخرى، فقصدوا باب العزيز؛ (وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (يوسف: 69) فرح يوسف بلقاء شقيقه الصغير، ثم دبر له مكيدة بأنه سرق مكيال الملك، ليبقيه معه في قصر الملك، وقد كان جزاء السارق في شريعة نبي الله يعقوب أن يؤخذ عبدًا عند صاحب المتاع المسروق.
ولا تيأسوا من روح الله
عاد الإخوة الى فلسطين ودخلوا على أبيهم بدون أخيهم الأصغر، فانصدم يعقوب من هول ما جرى، وعادت الذكريات اليوسفية الأولى؛ (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: 84)، وظل يعقوب يشكو بثه وحزنه إلى ربه الذي ألقى في قلبه الطمأنينة والرضا والأمل بلقيا ما فقد من أولاده فنادى: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ) (يوسف: 87).
لا تثريب عليكم اليوم
عاد أولاد يعقوب إلى مصر مرة أخرى ليبحثوا عن يوسف وأخيه بعد ما صارحهم يعقوب بيقينه أن يوسف ما زال حيّاً، فقصدوا باب العزيز وقد بدا عليهم الإرهاق من تتابع السفرات وبعد المسافات وشدة القحط وقلة المال؛ (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) (يوسف: 88)، فلما رأى ما بهم من إرهاق وضر، رق لحالهم، وقرر أن يعرفهم على نفسه بتدرج حتى لا يصدموا؛ (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ) (يوسف: 89)، ذكرهم بكيدهم الأسود بأخيهم الصغير، ذكرهم بيوسف الذي أمروا أن يتحسسوا منه في هذه الرحلة، وهنا تغيرت نظرتهم إلى العزيز وبدؤوا يدققون في ملامحه، في نبرة صوته، في صورته، فالملامح هي هي، والصور متقاربة، والصوت ليس عنهم بغريب؛ لذا قالوا بكل ذهول على لسان رجل واحد: (أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ) (يوسف: 90)، أنت يوسف؟ أيعقل أن يكون يوسف حيًا؟ وأن يكون هو العزيز الذي كانوا يتذللون بين يديه منذ قليل؟
فأجابهم: نعم؛ (أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا) (يوسف: 90) بنعم نتقلب فيها، حتى أوصلني ربي إلى منصب الحاكم لمصر القائم على خزائن الأرض.
وهنا اعترفوا له بتفضيل الله له عليهم، كما اعترفوا له بعظيم جرمهم في حقه وحق والدهم، فعفا عنهم ولم يثرب عليهم، ثم كلفهم بالمهمة الأخيرة؛ (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) (يوسف: 93).
جاء البشير حاملًا قميص يوسف، ثم ألقاه على وجه يعقوب فارتد بصره أفضل مما كان عليه، في معجزة كريمة لنبي الله يوسف عليه السلام، ثم أخذ الجميع في الاستعداد للهجرة من فلسطين إلى مصر العزيز.
تأشيرة الدخول الملكية
(وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (يوسف: 93)؛ كانت هذه الجملة بمثابة سمة الدخول وتصريح الإقامة لبني إسرائيل على أرض مصر الطيبة.
حيث أخذ يعقوب أهله وأولاده وأحفاده وعبيدهم ودوابهم وأموالهم وكل متاعهم، وانطلق الموكب من بدو فلسطين حتى حط رحاله في قصر عزيز مصر؛ (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) (يوسف: 99)، فأكرمهما ورحب بهما وبالغ في إكرامهما، وأنزلهما في اعلى منزلة؛ (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) (يوسف: 100)، وأجلسهما على كرسي الوزارة وعرش الملك، بينما وقف الإخوة الأحد عشر أمامه، وخر الجميع ليوسف ساجدين سجود تحية وإجلال، وليس سجود عبادة(1).
تبدلت أحوالهم وكرههم المصريون لما تغيرت نفوسهم وآثروا العزلة بحجة أنهم من نسل الأنبياء
وبهذا المشهد الرقيق، استدعى يوسف شريط الذكريات، يوم أن دخل على أبيه وهو طفل صغير ليقص عليه رؤياه المنامية قائلًا: (يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (يوسف: 4)، التي يرى تأويلها العملي بين يديه ماثلًا، فقال: (يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً) (يوسف: 100)؛ إذ تحولت من الرمزية النظرية لحادث مستقبلي إلى واقع مشاهد عملي.
بنو إسرائيل.. ما بين يوسف وموسى
استقر أولاد يعقوب -بنو إسرائيل- في مصر، ونزلوا برحاب عزيزها فأسكنهم وأكرمهم غاية الإكرام، وأغدق عليهم من النعم والخيرات، وأقطعهم بأمر الملك أرضًا في أخصب البقاع، وظلت سلالتهم هكذا حينًا من الدهر، تنعم بكرم المصريين ورعايتهم، بل لقد وصل كثير منهم إلى أعلى الدرجات(2).
يقول د. عبد الرحمن مرعي، في كتابه «أهل الكتاب في القرآن الكريم»: إن بنى إسرائيل دخلوا مصر أيام الهكسوس وعاشوا حياة كريمة وداموا على هذه الحال لمدة قرن من الزمان، قبل أن يعانوا ويعملوا عبيداً فترة حكم فرعون(3).
استعباد الفراعنة لبني إسرائيل
نعم، لقد تغيرت الأحوال وتبدلت النعم عليهم، وكرههم المصريون، لما تغيرت نفوس أجيالهم وآثروا العزلة عن المصريين بحجة أنهم من نسل الأنبياء، فلا يخالطونهم ولا يناكحونهم، لا سيما وأنهم ينسبون إلى الأسرة الحاكمة بعدما نالوا في ظل يوسف أعلى المناصب والوظائف.
لكن دوام الحال من المحال، والأيام دول، فقد زالت دولة يوسف العزيز الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، ربيب بيت النبوة، سليل الكرام، واعتلى سُدَّة الحكم فرعون ظالم قاهر، أنساهم بشدة بأسه كل راحة وكل نعيم.
جاء في العهد القديم: «إن ملكًا من الفراعنة جاء بعد يوسف، لم يعرف شأنه ولا مقامه في دولة آبائه، فاسترق بني إسرائيل واستعبدهم»(4).
وقد صور القرآن العظيم مشهد الاستعباد لهم تصويرًا دقيقًا: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4).
ظل بنو إسرائيل على هذه الحالة من الظلم والاضطهاد والاستضعاف والاستعباد حتى بعث الله نبيه موسى عليه السلام الذي كان لبني إسرائيل بمثابة سفينة النجاة، فماذا فعل بنو إسرائيل بمن أكرمهم ونجاهم من سوء العذاب؟
______________________________
(1) بتصرف من كتاب «القصص القرآني» للدكتور صلاح الخالدي.
(2) العهد القديم، سفر التكوين، إصحاح (47/ 11).
(3) كتاب «أهل الكتاب في القرآن»، د. عبدالرحمن مرعي.
(4) تاريخ ابن خلدون (1/ 120).