منذ أن رفعت دولة جنوب أفريقيا دعواها إلى محكمة العدل الدولية التي تتهم فيها الكيان الصهيوني بشن حرب إبادة جماعية في غزة، انهالت الكتابات والتعليقات التي تتناول هذا الأمر؛ إما بالتهوين من تلك الدعوى والآثار المتوقعة لها، أو بالتعامل معها وكأن تحرير غزة وفلسطين كلها من الاحتلال الصهيوني بات يتوقف على القرار الذي سيصدر من محكمة العدل الدولية في هذا الشأن!
والواقع أن لكل اتجاه من اتجاهي التهوين والتهويل مبرراته القوية؛ فالجانب الذي يستخف باللجوء إلى محكمة العدل الدولية يستند إلى أنه حتى لو أدانت المحكمة الصهاينة بشن حرب إبادة جماعية على فلسطين، فإنها ستحيل الأمر إلى مجلس الأمن الدولي ليتخذ قراره الرامي إلى وقف هذه الحرب على الفور، وهو القرار الذي من المستحيل صدوره في ظل وجود «حق الفيتو» كما هو معلوم!
أما الاتجاه الذي يهول من رفع الدعوى ضد الصهاينة، فإنه يتحدث عن المسألة وكأن المحكمة ستحرر فلسطين، باعتبار أن حكمها المنتظر سيفضح الصهاينة ويكشف «نازيتهم»، ولن يعوق هذا الأمر (حق الفيتو) باعتبار أن التأثير الأدبي للحكم سيكون قوياً إلى الحد الذي سيسحب البساط من تحت أقدام الدول الكبرى الداعمة للصهيونية ويؤثر عليها بالسلب أمام الرأي العام العالمي، كما أنه سيمثل غطاء يعضد إمكانية ملاحقة المجرمين الصهاينة ومحرضيهم وداعميهم جنائياً.
القانون الدولي يعاني أزمة معقدة تحدّ من آمال تحقيق العدالة على المستوى العالمي
ولسنا الآن في مقام مناقشة حجج كل من الاتجاهين، إذ نسعى عبر هذا المقال إلى فقه الواقع كما هو حتى نستطيع التعامل معه وفق معطياته الفعلية، دون التحليق في الخيال أو التشبث بالأوهام، وكذلك دون أن نضيع فرصاً قد تكون سانحة يمكن أن نستثمرها في نصرة قضيتنا الأهم، وهي القضية الفلسطينية.
حقائق مهمة
فهناك عدد من الحقائق المهمة التي ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار عند تناول هذه المسألة لوضعها في إطارها المطابق للواقع، حتى يكون وعينا لها مناسباً، وتعاملنا معها فعالاً، ومنها:
الحقيقة الأولى تتمثل في أن القانون الدولي المعاصر (وكذلك النظام الدولي) يعاني من أزمة معقدة ومركبة، تهدد حتى وصفه بالقانون، أو على الأقل تحدّ من الآمال المعولة عليه لتحقيق العدالة على المستوى العالمي؛ إذ ينقص هذا القانون عادة عنصر الإلزام الذي يتوجب أن يتوافر في قاعدة ما، لاعتبارها قاعدة قانونية مجردة، كما ينقصه عنصر الجزاء، الذي يتطلب وجود سلطة أعلى من سلطة الدول لتوقعه.
وأستند في هذا إلى ما سبق أن قرره الفيلسوف والفقيه القانوني الإنجليزي جون أستون (1790 – 1859م) من اشتراطه في القانون وجود سلطة سيادية تصدر الأوامر وتملك القدرة على إنزال العقاب على من يخالفها، ومن ثم إلى نفيه وجود تلك السلطة السيادية في «القانون الدولي»، وذهابه إلى أن قواعده مجرد مجموعة قواعد أخلاقية.
وعلى الرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت إلى نظرية أوستن تلك -وما زالت توجه إليها- بزعم أن هناك بالفعل سلطات تعلو فوق سلطة الدول، مثل الأمم المتحدة وأجهزتها الستة، وعلى رأسها مجلس الأمن وجهازها القضائي المتمثل في محكمة العدل الدولية، فإن الواقع ينطق بغير ذلك؛ حيث إن الأمم المتحدة تعتمد في إنفاذ أهم قراراتها، وهي القرارات المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين، على توافر الإرادة السياسية للدول الخمس الأقوى في العالم مجتمعة، وهي أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين، وعلى توازن القوى فيما بينها، فإذا اعترضت دولة منها على الأقل فإن من شأن هذا الاعتراض أن يعرقل إصدار القرار المعترض عليه، ولو كان هذا القرار مستنداً إلى حكم لمحكمة العدل الدولية!
دعوى دولة جنوب أفريقيا خطوة بالغة الأهمية من شأنها فضح الصهاينة وداعميهم
وحتى إذا اعتبرنا إرادات هذه الدول الخمس تعلو إرادات ما دونها من دول العالم، ومن ثم تكمل النقص الذي يعتري القانون الدولي، فإن هذه «الدول السيادية» ستماثل بذلك -في حقيقة الأمر- «الجهات السيادية» المهيمنة في الدولة السلطوية (الدكتاتورية)، فهي المشرع والقاضي والمنفذ في الوقت نفسه، ومن ثم لا يسوغ أبداً اعتبارها «دولة قانون»، بل «دولة قانون الغاب»، وذلك هو وضع القانون والتنظيم الدوليين الآن للأسف الشديد!
وآية ذلك، أن الأصل في المنظور الغربي أن العلاقات الدولية -والفردية والمجتمعية- هو الصراع، وأن البقاء ليس للأصلح بل للأقوى، وهو ما انعكس على طبيعة منتوجات الفكر الغربي، ومن ضمنها القانون الدولي بصفة عامة ومواثيق المنظمات الدولية بصفة خاصة، عدا بعض الثغرات التي قد ينفذ منها المستضعفون عسى أن يتخللوا النظام الدولي في محاولة لتقويم عوجه، وتوجيهه نحو نصرة المستضعفين.
منتوجات السياسة الغربية
الحقيقة الثانية: أن الكيان الصهيوني نفسه هو أحد منتوجات الفكر والسياسة الغربيين كذلك، حيث بدأ التفكير في إنشاء هذا الكيان منذ صدور الوعد البريطاني بإنشائه («وعد بلفور» في عام 1917م)، وصولاً لإعلانه فعلاً في عام 1948م برعاية غربية (بريطانية أمريكية فرنسية روسية..)، بعدما قررت أمريكا أن تحل محل البريطانيين والفرنسيين في احتلالهما العسكري المباشر لدول العالم الإسلامي وغيرها من الدول النامية، باحتلال يحمل صيغة جديدة تقوم على التحكم عن بُعد، مع إبقاء قوة عسكرية على أرض فلسطين تستخدمها أمريكا -وحلفاؤها- للترغيب والترهيب والتفتيت، لنكتشف بذلك أن المتحكم في سن قواعد القانون الدولي المعاصر وفي تطبيقه هو نفسه المؤسس للكيان الصهيوني والداعم له!
الحقيقة الثالثة: أن الدولة التي أدركت هذا الواقع -المظلم- بالفعل هي دولة جنوب أفريقيا (الحرة المستقلة)، استندت إلى «اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها»، ورفعت دعوى أمام محكمة العدل الدولية لوقف حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني ضد غزة، مع طلب التعجيل بإصدار «تدابير مؤقتة»، وفق ما تقرره المادة (41) من النظام الأساسي للمحكمة، للحفاظ على الحقوق الخاصة بالفلسطينيين، ووقف تلك الحرب، وهي خطوة بالغة الأهمية، من شأنها فضح الصهاينة وداعميهم من الدول الغربية، لا سيما إذا قررت المحكمة فرض تدابير مؤقتة تمنع استمرار تلك الحرب إلى حين البت النهائي في القضية.
الحقيقة الرابعة: أن هذه الخطوة الشجاعة من دولة جنوب أفريقيا وإن كانت تمثل دعماً قانونياً وقضائياً وسياسياً وأدبياً وإعلامياً للفلسطينيين، إلا أنها لن تحرر فلسطين، بل سيحررها أبناؤها، الذين شرعوا بالفعل في حربهم لتحرير وطنهم في السابع من أكتوبر الماضي، إدراكاً منهم بعد تراكم خبراتهم مع الاحتلال، أن هذا هو الطريق الوحيد لتحقيق الاستقلال.
ومن حسن الحظ أن تدابير محكمة العدل الدولية وقرارها المنتظر سيؤكد شرعية ذلك الخيار المقاوم والمشروع وفق قواعد القانون الدولي نفسه، حتى بحالته المهترئة تلك، وحتى لو تم استخدام «الفيتو» ضد القرار.