على الرغم من أن مصطلح الغزو الثقافي، بحسب الكثيرين، لم يظهر إلا في ستينيات القرن الميلادي الماضي، فإن مظاهره والتعاطي مع إشكاليته يعودان إلى ما قبل ذلك بعقود أخرى، إذ تجلى ذلك بوضوح شديد خلال السنوات الأخيرة من زمن الاستعمار الغربي العسكري للعديد من البلدان العربية والإسلامية؛ حيث تولدت تيارات ثقافية وفكرية متعددة كنتيجة للجدل الدائر بين النخب المجتمعية حول البون الشاسع بين أوضاع الدول الاستعمارية والدول المستعمَرة، فضلاً عن مستقبلها، وهو الجدل الذي أفرز ثلاث مدارس فكرية رئيسة.
الأولى: قادها تيار علماني نظر للغرب بجملته نظرة انبهار، والثانية: اتخذت موقفاً معادياً تماماً للغرب، فيما كانت المدرسة الثالثة وسطاً بين الأولى والثانية؛ بالحرص على تحقيق الاستقلال من التبعية، وفي الوقت ذاته الأخذ بالعلوم العصرية والإفادة مما وصل إليه الغرب.
الثقافة بديل الرشاش
شهد التاريخ أن الآلة العسكرية الغربية بكل قدراتها على القتل والتدمير فشلت فشلاً ذريعاً في إخضاع أبناء الأمة العربية والإسلامية لها، فلم تخفت ليوم واحد ثورات وانتفاضات ومقاومة أبناء الدول المستعمرة؛ الأمر الذي كبَّد قوى الاحتلال خسائر فادحة بشرية كانت أو مادية؛ ما دفع الغرب إلى أن يفكر بجدية في أن يستبدل بالاحتلال العسكري آليات أخرى تحقق له الهدف دون استنزافه واستمرار خسائره؛ وهو ما تمثل بالفعل فيما اُصطلح عليه بالغزو الثقافي.
والحقيقة أنه رغم أن الاستعمار لجأ بالتزامن مع وجوده العسكري في البلدان العربية والإسلامية إلى كل آليات طمس الهوية وتزييف الوعي، فإن الصراع المحتدم بين هذه القوى وروح المقاومة والرفض من قبل أبناء البلدان المستعمرة شكَّل حاجزاً نفسياً أضعف من نجاعة هذه العملية، ليكون الخيار الأمثل صناعة من يقوم بالمهمة من أبناء الدول المستعمرة؛ فيشكّلون «الطابور الخامس» الذي يمكن أن يحقق ما فشلت فيه الآلة العسكرية.
وكانت صناعة هذا الفريق البداية الحقيقية للاختراق والغزو، فبهذا الفريق تمكن الاستعمار من تجاوز الحاجز النفسي الفاصل بين قيمه والقطاعات الجماهيرية، كما أحدث حالة من الاستقطاب فضلاً عن الترويج لنسبية تقييم الاستعمار وسلوكه؛ وهو ما سهَّل لاحقاً نجاح الاستعمار في التحكم في أغلب الأنظمة السياسية التي صنعت قيادتها على أعين الغرب وفق أفكاره ومناهجه.
مفهوم الغزو الثقافي
لا شك أن تفوق الغرب عسكرياً وعلمياً كان له أثره البالغ في تحقيق الكثير من النفوذ في نفوس البعض، وهي الحالة التي سماها المفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي «قابلية الاستعمار»، وذلك في كتابه «شروط النهضة»، الصادر عام 1948م، التي تعني -وفق تصور بن نبي- ببساطة أنه وبعد أن تتم السيطرة المعنوية والمادية يقبل الفرد بالحدود التي يرسمها له الاستعمار، ويفكر داخلها ولا يخرج عليها، ويرسم شخصيته طبقاً لحدودها، بل يدافع حتى لا تزول تلك الحدود التي أقنعه بها المستعمر، وحينها نكون أمام فرد يعاني من «القابلية للاستعمار»؛ ومن ثم فهي رضوخ داخلي عميق للاستعمار ناتج عن إقناع الاستعمار للأفراد المستَعمرين بتفوقه عليهم وعدم قدرتهم على إدارة شؤون حياتهم بدونه ودونيتهم في كل شيء.
في هذا الإطار، فإن الغزو الثقافي لا يقل خطورة عن الغزو العسكري، بل يمكن أن يكون أشد خطورة منه، فالمقاومة والمواجهة العسكرية يمكن أن تنجح في طرد الاحتلال وإجباره على مراجعة خسائره والعودة بخفي حنين، في حين تتحقق الهيمنة الحقيقية من خلال غزو العقول وغسل الأدمغة وقولبة الأفكار وفق النمط المراد، وهي حالة تستدعي جهوداً ضخمة وعملاً متواصلاً وزمناً طويلاً لمواجهتها ومعالجة آثارها.
آليات المواجهة
لا مفر من أن نعترف بأن الغرب الاستعماري نجح إلى حد كبير في تحقيق الكثير من أهدافه من خلال الغزو الثقافي، فهذا الاعتراف هو ما يفرض علينا أولاً طرح السؤال الأهم حول كيفية المواجهة بعيداً عن دفن رؤوسنا في الرمال أو الانسياق خلف محاولات التخدير التي يقوم بها البعض عن قصد أو دون قصد.
ولعل الحديث عن مواجهة الغزو الثقافي يستلزم النظر إلى أمرين مهمين:
الأول: الوعي بآليات ووسائل هذا الغزو، والعمل على امتلاك وسائل مقابلة تكون قادرة على مناطحتها، وهو أمر بات مهماً لأقصى درجة، إذ يحقق الغرب بين الحين والآخر قفزات تقنية وعلمية هائلة في هذا الاتجاه تساهم بشكل كبير في مسخ الهوية العربية والإسلامية، وتبعد أبناء الأمة عن القيم والتوجيهات والثقافة الإسلامية، فلم يعد خافياً أنه تم تجاوز الآليات التقليدية كالكتب والمجلات والصحف أو حتى الدراما والسينما، بل ربما اقتربت من تجاوز الفضائيات والإنترنت والهواتف الذكية إلى ما يسمى بالذكاء الاصطناعي الذي يبدو جلياً أنه سيكون السلاح الأقوى بيد ماسخي الهوية في المدى القريب.
وأما الثاني: فهو امتلاك مضامين ثقافية وفكرية مغايرة لما يحاول الغرب ترويجه شريطة أن تحرص هذه المضامين على مواكبة المستجدات ومعالجة الإشكاليات العصرية وطرح التصورات النظرية والفلسفية القادرة على دحض وتفنيد ما يثيره المناوئون من شبهات.
والحقيقة أن التعاطي مع هذا الجانب يحتاج إلى عمل مؤسسي ضخم، فلا يمكن مواجهة الجهود الاستعمارية الغربية بجهود فردية مهما بلغت قيمة أصحابها، وذلك لمحدودية قدراتها وتأثيرها وعدم شموليتها ما يجعلها مبتورة تذهب أدراج الرياح؛ ما يدفع بضرورة إنشاء المؤسسات الثقافية والفكرية وضم المتخصصين من شتى تخصصات العلوم الدينية والإنسانية بما يشكل فرقاً متناغمة.
المهمة الصعبة
يكون من غير الموضوعي الحديث عن المواجهة وكأنها عمل غائب في الفراغ، دون لفت النظر إلى أن هناك عقدة أهم وأخطر تتمثل في ردود الفعل التي ستعمل كل ما بوسعها لإفشال جهود مواجهة الغزو الثقافي، فطابور المنتفعين طويل جداً فيما يمتلك الكثير من المقدرات، وبيده أغلب أدوات القوة؛ ما سيجعل الطريق وعراً والمعركة حامية الوطيس تحتاج إلى نفوس مؤمنة وأرواح لديها الاستعداد لتقديم كل غال ونفيس حتى يتم بلوغ الهدف المنشود، من خلال المشاركة في وضع لبنات مشروع ثقافي وفكري يكون حصناً منيعاً لدى أبناء الأمة، يعيدهم للصواب وينتشلهم من مشاعر الدونية، ويمنحهم الثقة بالنفس والطاقة اللازمة للسير في طريق تحقيق الاستقلال من التبعية، فهي إذن مهمة غاية في الصعوبة.