منذ سقوط التجربة الأخيرة للخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاتورك، في 27 رجب 1342هـ/ 3 مارس 1924م، والفكر الإسلامي يبحث تداعيات هذه القضية الحساسة؛ نظراً لعلاقة الإسلام كدين بالدولة، وحاجة الأحكام الشرعية إلى السلطة، إذ إن الخلافة تعني أساساً رئاسة عموم المسلمين في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، ونشر الدعوة الإسلامية في ربوع العالم وآفاقه المختلفة وتبليغ حقائق وتعاليم الرسالة الخاتمة إلى الناس كافة.
أدركت القوى الغربية (أوروبا) منذ حصار فيينا على يد الخليفة العثماني سليمان القانوني -وفيينا هي قلب أوروبا- عام 935 هـ/ 1529م، أن قوة المسلمين الحقيقية تتمثل في وحدتهم كأمة وحضارة لها بصمتها الخاصة، وأنّ الخلافة التي تظلهم، تمثل السياج السياسي الذي يحافظ على استمرار وتأثير تلك القوة؛ لذلك بذلت كلّ ما بوسعها من أعمال ومخططات وتحالفات سواء أكانت سرية أو علنية، من أجل حل هذا الرباط، وتفتيت هذه الوحدة؛ لكي يسهل بعد ذلك تقسيم الكيان الذي ظلت الخلافة العثمانية مدة خمسة قرون وربع القرن، تمثل بالنسبة له المظلة الواقية من الأعاصير والزوابع الهابّة من عدة جهات واتجاهات.
أوروبا أدركت أن قوة المسلمين في وحدتهم والخلافة التي تظلهم فعملت على تفتيت هذه الوحدة وحل هذا الرباط
وبعد جهود مضنية بُذلت على مراحل مختلفة، أمكن لتلك القوى تحقيق الهدف الذي سعت إليه، فسقطت الخلافة العثمانية، بعد إضعافها وإثخانها بالجراح، فانفسح المجال أمام خصوم الأمة الإسلامية، فراحوا يحتلون أراضيها قُطراً قُطراً وإقليماً بعد آخر، ثم زرعوا في قلب كيانها جسماً سرطانياً غريباً («إسرائيل»)، ليستنزفها في حال أجبرت قوى الأمة الحية المكافحة الاحتلال على الرحيل، وهو ما حدث بالفعل، وعلى النحو الذي توقعوه في مخططاتهم.
تفتيت الوحدة الإسلامية
لقد كان من أهم أهداف الصليبية الحاقدة والصهيونية الماكرة -كما صرّح بذلك أحد أشهر جواسيس الإنجليز المشهور في الكتابات العربية التاريخية باسم «لورنس العرب»(1) عام 1916م- تفتيت الوحدة الإسلامية، خاصة في بُعدها السياسي، ودحر الخلافة العثمانية وتدميرها، وفصل العرب عن دائرة هذه الخلافة بصفة نهائية، حتى يعيشوا في دوامة من الفوضى السياسية، داخل دويلات صغيرة غير قابلة للتماسك ولا حتى التعاون فيما بينها.
فقد دفع الإنجليز بالشريف حسين، شريف مكة، كما كان يُسمى حينئذ، إلى التحالف معهم ضد إخوانه المسلمين الأتراك، مقابل وعد بوطن عربي موحَّد تحت إمرته وسلطانه؛ غير أن ما حدث هو تقسيم البلدان العربية المقسمة أصلاً إلى دويلات أصغر، وذلك تنفيذاً لمعاهدة «سايكس بيكو» المعقودة بين كل من فرنسا وبريطانيا عام 1916م.
وبدل الوعد بالوطن العربي الموحد، تم الإعلان والإقرار بوعد آخر، مضاد للعرب؛ هو «وعد بلفور» عام 1917م، القاضي بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين العربية المسلمة، بعد المحاولات الكثيرة المتكررة التي قادها تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية السياسية المعاصرة، في محاولة للحصول على جزء من فلسطين من الخليفة المسلم السلطان عبدالحميد الثاني، مقابل دفع ديون الدولة العثمانية، والمساهمة في إنقاذ اقتصادها المتدهور.
وقد واجه السلطان عبدالحميد ذلك الإغراء بموقف تاريخي عظيم، قدّم فيه مصلحة أمته المسلمة على المصلحة القومية الضيقة، حيث رد في حزم قائلاً: «إن وضع المشرط في جسدي وتقطيعه إرباً إرباً أهون عليَّ من أن أعطيكم أرضاً فتحها أمير المؤمنين الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحررها القائد صلاح الدين الأيوبي»(2).
.. ولتحقيق هذا الهدف قامت بتجزئة الإمبراطورية العثمانية إلى دول ومقاطعات وعزل البلاد الإسلامية
بطبيعة الحال، كان تركيز عمل القوى الغربية منصباً خلال تلك المرحلة على تدمير مركز الخلافة؛ كي يسهل بعد ذلك الفتك بأعضاء الجسم، التي كان المركز يمدّها بالقوة والحماية العسكرية والمعنوية وغيرها.
شروط الهدم
وقد ذكر الشيخ محمد محمود الصواف أن الاستعمار الغربي اشترط على مصطفى كمال أتاتورك، مقابل تمكينه من اعتلاء السلطة في تركيا، على أنقاض حكم الخلافة الإسلامية عدة شروط، أهمها:
1- الإعلان عن إلغاء الخلافة الإسلامية نهائياً من تركيا.الأمة الإسلامية
2- أن تتعهد تركيا بقطع أي صلة رسمية لها بالإسلام والعالم الإسلامي.
3- أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية ذات التأثير والفعالية المتبقية.
4- أن تسارع إلى إلغاء الدستور العثماني المؤسَّس على الإسلام ومقاصد شريعته، والإعلان عن الدستور التركي المدني الوضعي العلماني.
فما كان من أتاتورك، أمام هذا الموقف، سوى الرضوخ والانصياع إلى شروط القوى الاستعمارية الغربية، فقبل بها، ولما كان متحمساً بطبعه لهذا التوجه، فقد نفذها، وغالى في الوفاء بها، بل الإضافة إليها(3).
وعندما نعود إلى تقصي الصورة التاريخية لتلك الفترة، نجد أن القوى الغربية في جملتها، كانت جادة وعازمة -قبل الهيمنة الكاملة على البلاد الإسلامية- على تمزيق جامعة المسلمين السياسية المتمثلة في الخلافة العثمانية، كما يمزق الجزار ذبيحته إرباً إرباً، ولقد أدركت تلك القوى بأن تحقيق هذا الهدف يمرّ حتماً عبر تجزئة الإمبراطورية العثمانية إلى دول ومقاطعات عديدة، حيث تمّ عزل إيران وأفغانستان، كما تمّ عزل البلاد الإسلامية الأخرى مثل أوزباكستان وطاجيكستان وأذربيجان وتركستان وكازاخستان، وتسليمها للقوى الشيوعية، غير أن النصيب الأوفر من هذه التجزئة كان من نصيب البلاد العربية، حيث تمّ بعثرتها إلى ما يزيد على 20 دولة.
وقد يتصور البعض أن ذلك كان بسبب الصراع الفرنسي – البريطاني على مناطق الاحتلال والحماية، لكن لو كان الأمر كذلك لكان نصيب التجزئة العربية الانشطار إلى جزئين كبيرين أو ثلاثة أو أربعة، لكن الذي حدث بالفعل أن المناطق التي وقعت تحت سيطرة الاستعمار الواحد جُزئت ومُزقت شر ممزق؛ فلبنان -مثلاً- تم فصله عن سورية، وكلاهما واقع تحت هيمنة الاستعمار أو الانتداب الفرنسي -كما كان يُسمى- وهو الأمر ذاته الذي فعله الاحتلال الفرنسي في منطقة المغرب العربي.
ولم تَسلَم الأقطار الواقعة تحت نفوذ الاستعمار البريطاني من مصير التجزئة، حيث فصل الأردن عن فلسطين، والسودان عن مصر، وأصبح الخليج العربي بدوره عدة محميات ومناطق نفوذ(4).
قوى الأمة ظلت تروم للجامعة الإسلامية والوحدة السياسية وكان ذلك ظاهراً في الخطاب السياسي والفكري
الجامعة الإسلامية
لكن، هل استكانت الأمة الإسلامية لما آلت إليه أوضاعها؟ الحق أن قوى الأمة المختلفة ظلت تستبطن في أعماقها موضوع الجامعة الإسلامية، أو وحدة الأمة السياسية، وكان التعبير عن هذه الروح ظاهراً في الخطاب السياسي والفكري وفي نتاج المثقفين والأدباء والإعلاميين.. إلخ.
كما أن هذا النزوع أصبح شعوراً عاطفياً لدى شرائح اجتماعية واسعة في الأمة الإسلامية، وكان هذا الشعور يتغذى على مرّ الأيام على ما يظهر من عداء الغرب للإسلام، والسخرية بنبي الإسلام وخاتم المرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وإضعاف أخلاق الشباب والنشء وتشكيكهم في هُويتهم وانتمائهم ومعتقداتهم.
كما يتغذى من روح الصلف والاستكبار الغربي، الذي ينظر إلى الوحدة الإسلامية، خاصة في بُعدها وإطارها السياسي، كأحد أبرز المحظورات؛ كما تدلّ أعماله ومخططاته التي تستهدف تجزئة العالم الإسلامي، وخلق كيانات سياسية جديدة في أقطاره ودوله المختلفة.
علماً أن هذه الآلية -سياسة التفريق والتجزئة- قد انتهجتها تلك القوى الاستعمارية، منذ زمن بعيد، وقد آلت إلى إسقاط الخلافة الإسلامية.
أما في زمننا هذا، فإن تلك القوى المعادية لأمتنا تدرك بأن تقسيم هذه الأمة إلى قوميات وطوائف وقبائل ومذاهب، بعد تقسيمها إلى أقطار، يصبّ في مصلحة الصهيونية العالمية، ذلك أن دولة الكيان الصهيوني تريد أن تتعامل مع مجموعة دويلات صغيرة ضعيفة متصارعة، أفضل لها من أن تواجه دولا موحَّدة منسجمة في توجهاتها، لها عمق حضاري وسياسي واقتصادي؛ ومن أجل ذلك فإنهم يدعمون الأقليات، قصد إدارة الصراع الطائفي والديني والقومي، وجعل النتائج تتصل بأهدافهم الإستراتيجية.
إن تلك الدوائر المعادية لأمتنا أقضَّ مضجعها قروناً عديدة ذلك التماسك المتين والترابط الصلب بين المسلمين على اختلاف أعراقهم وأقطارهم ولغاتهم، فقدروا بأن أفضل وسيلة للتغلب على هذه الأمة، تتمثل في تجزئتها وإنهاء وجودها الدولي.
وبعد أن تحقق لأعداء الأمة الإسلامية ما أرادوا تحقيقه، أخذ مفكرو وعلماء وخبراء هذه الأمة يفكرون في المصير السياسي للعالم الإسلامي، فقدموا عديد الصيغ التي من شأنها أن تتحول في يوم من الأيام، أو خلال مرحلة من المراحل، إلى إرادة سياسية، تستعيد بها الأمة الإسلامية جامعتها أو وَحدتها السياسية والإدارية والحضارية، وهذا ما نطرحه في مقال قادم بإذن الله.
_____________________________________
(1) توماس إدوارد لورنس (1888 – 1935م)، ضابط مخابرات بريطاني، مكث في البلاد العربية لسنوات طويلة، واشتهر بدوره في تأييد الثورة العربية وإشرافه على حركة الانفصال عن الخلافة العثمانية، حتى لقب بـ«لورنس العرب»، من أشهر مؤلفاته: «القلاع الصليبية»، و«أعمدة الحكمة السبعة».
(2) خالد سليمان الفهداوي، منهج التعايش بين المسلمين، دار صفحات للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 2007م، ص 20.
(3) أحمد بن سعد الغامدي، الوحدة الإسلامية أسسها ووسائل تحقيقها، مؤسسة الجريسي للطبع، الرياض، ط1، 1410هـ، ص 24.
(4) منير شفيق، الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر، دار طه للنشر، ط1، لندن، 1983 م، ص 59.