سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، وهو الذي ما ترك خيرًا إلا ودلنا عليه، وما ترك شرًا إلا ونهانا عنه وحذرنا منه، وإن نبياً بهذه الصفات ينبغي أن يُسمع له فيما أخبر، وأن يُطاع فيما أمر، وإن هذا الحديث لمن شواهد الصدق على نبوته، ومن دواعي الإيمان برسالته، فهو معجزة نبوية، وخبر بالغيب، إذ صدق الواقع كل كلمة في هذا الحديث، فتأمل:
روى ابن ماجه في «السنن» بسند حسنه الألباني أن ابن عمر قال: أقبل علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «يا معشرَ المهاجرين، خمسُ خِصالٍ إذا ابتليتم بهنَّ وأعوذُ باللهِ أن تدركوهنَّ، لم تظهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتَّى يُعلِنوا بها إلَّا فشا فيهم الطَّاعون والأوجاعُ الَّتي لم تكُنْ مضت في أسلافِهم الَّذين مضَوْا، ولم ينقُصوا المكيالَ والميزانَ إلَّا أُخِذوا بالسِّنين وشدَّةِ المؤنةِ وجوْرِ السُّلطانِ عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالِهم إلَّا مُنِعوا القطْرَ من السَّماءِ ولولا البهائمُ لم يُمطَروا، ولم يَنقُضوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلَّا سلَّط اللهُ عليهم عدوًّا من غيرِهم فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكُمْ أئمَّتُهم بكتابِ اللهِ تعالَى ويتخيَّروا فيما أنزل اللهُ إلَّا جعل اللهُ بأسَهم بينهم».
فهذا الحديث شاهد عدل وبرهان صدق على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ حوى في طياته خمس خصال، في كل خصلةٍ منها معجزة محمدية، وإثبات لوحي الألوهية.
الأولى: ظهور الزنى والإعلان عنه:
لأن الزنى فعلة شنعاء، وجريمة من أعظم الجرائم الخلقية والاجتماعية التي تهدم الأسرة وتحطم بنيان المجتمع، لما يترتب عليها من مفاسد وآثار سيئة كفساد الأنساب وضياعها ووجود الأحقاد والضغائن بين الناس، وما يترتب عليها أيضاً من إلحاق العار بمرتكب هذا الجرم الشنيع وأهله وعشيرته.
يقول الإمام أحمد: «ليس بعد قتل النفس أعظم من الزنى».
وإن كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد سلموا من هذه الخصلة الدنيئة، فإنها تحققت في زماننا بما يحدث في بلاد كثيرة من إباحة الفاحشة وتقنين الدعارة وإنشاء المواقع الإباحية، وصناعة الأفلام الجنسية التي تروج للفاحشة؛ مما نتج عنه كثير من الأمراض الخبيثة كالإيدز والسرطان والزهري والسيلان والقرحة والهربس التي لم تكن معروفة في القرون السالفة.
في تقرير لمنظمة الصحة العالمية قالت: إن عدد المصابين بالإيدز حتى نهاية عام 2022م بلغ 39 مليوناً حول العالم، وإن مرض الإيدز فقط قتل ما يزيد على 40 مليوناً من سكان الأرض، وهذا يعني أن فشو الفاحشة سيقابله حتمًا فشو الأوجاع والأمراض المهلكة التي تباغتنا كل حين، جزاءً وفاقًا.
الثانية: نقص المكيال والميزان:
لأن الله تعالى ذمّ الغش وأهله في القرآن وتوعدهم بالويل، فقال تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ {1} الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين).
كما حكى القرآن تحذير نبي الله شعيب قومَه من جريمة الغش في البيع والشراء قائلاً: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ) (هود: 84).
وكذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الغش وتوعّد فاعله وعيدًا شديدًا فقال: «من غشنا فليس منا»، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على صُبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟»، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني» (رواه مسلم).
وكفى باللفظ النبوي «ليس منا» زاجراً عن الغش، ورادعاً من الولوغ في حياضه الدنسة، وحاجزاً من الوقوع في مستنقعه الآسن، لأن الغش فعل شنيع، يدل على ضعف الإيمان، وقلة الحياء من الله، وطغيان الأنانية وحب الذات، وهو أكل لأموال الناس بالباطل، فإذا شاع الغش بين التجار، وأنقصوا حقوق العباد عند البيع أو الشراء، عاقبهم الله بنقص القوت وقلة الزاد والغلاء.
ولما كان الغش في المعاملات نوعًا من الظلم؛ عاقبهم الله تعالى بظلم الحكام والولاة وجور السلاطين.
الثالثة: منع الزكاة:
لأن الزكاة فرض عين لا يجوز التهاون فيه، فالبخل بالزكاة يهدد كيان المجتمع كله بانتشار السرقات وزيادة معدل الفقر والشحناء وحقد الفقراء على الأغنياء، فضلًا عما سيحل بالمجتمع من سخط الله وغضبه بسبب التهاون في إخراجها، فلو أدى أصحاب الأموال زكاة أموالهم لانتفى الفقر عن المجتمع، وعمت البركة، ولعاش الناس جميعًا في كفاية من العيش، وهذا ما دعا أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى أن يخوض حروبًا ضد مانعيها، وقال: واللهِ لأقاتلن مَن فرَّقَ بين الصَّلاةِ والزَّكاةِ؛ فإنَّ الزَّكاةَ حقُّ المالِ، واللهِ لو منعوني عَناقًا كانوا يؤدُّونَها إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لقاتَلْتُهم على منعه.
فالمنع سيقابله سخط ومنع، فإذا بخل الناس بحق الله في أموالهم، ومنعوا الفقراء من صدقاتهم وزكاتهم؛ منع الله عنهم قطر السماء وحبس عنهم المطر، ولولا وجود البهائم الرتع ما سقاهم الله قطرة ماء لأن البهائم لا ذنب لها، وهذا دليل على شدة غضب الجبار جل جلاله؛ لأنَّه ما رَزَقَهم إلَّا من أجلِ البهائِمِ، وكأنَّ البهائِمَ تكونُ عندَ اللهِ أفضَلَ منهم، إذا صاروا إلى هذه الحال من القسوة وانعدام الرحمة.
الرابعة: نقض العهود:
والمقصود بعهد الله ورسوله أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في هذه العهود التزام الحد، والقيام بالفرض، وتجنب المعاصي، والوفاء بالأيمان والنذور، وكذا المعاهدات والمواثيق التي يقطعها الناس على أنفسهم مع بعضهم ويشهدون الله تعالى عليها، قال تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل: 91).
فإذا أخل الناس بهذه العُهودِ التي أخَذوها على أنفسهم ولم يوفوا بها، فإن الله يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم ليستولي على بعض ما عندهم من الأموال والممتلكات والكنوز والبلدان، كما فعل المحتلون والمستخربون ببلاد المسلمين، حين أتوا على بلاد المسلمين فنهبوا ثرواتها وسرقوا خيراتها، وصدروها إلى بلادهم.
والجزاء من جنس العمل، فلما كان نقض العهود وعدم الوفاء بها فيه ضياع للحقوق والأموال، ناسب ذلك أن يسلط الله على هذا المجتمع من يضيع خيراته وثرواته وممتلكاته، وما ربك بظلام للعبيد.
الخامسة: تنحية العمل بالشريعة:
لأنها شريعة ربانية، جاءت بالوحي المطهر لإسعاد البشرية من لدن حكيم عليم، قال ابن القيم: الشريعة الإسلامية عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، ومصلحة كلها.
فإذا امتنع الأئمة عن التحاكم إلى هذه الشريعة الربانية المحكمة، أو تخيروا منها ما يروق لهم فطبقوه، وامتنعوا عن الباقي وعطلوه، وكانوا كمَن يُؤمِنون ببعضِ الكِتابِ ويَترُكون بعضَه، فإن عقابهم أن يجَعَلَ اللهُ بأسَهم بينهم، فيكون بعضهم أعداء لبعض.
وما من أمة تعادي شرع الله أو تعطله أو تحرفه أو تختلف عليه، إلا وجعل بأسهم بينهم شديداً، وكان بعضهم أعداء بعض، قال تعالى حكاية عن أعداء الوحي من اليهود: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ) (الحشر: 14).
وقد ظلت الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للأحكام أكثر من 1300 عام، وذلك في ظل الخلافة العثمانية وما قبلها من الممالك الإسلامية، حتى كانت الفترة التي تولى فيها ولاة متأثرون بالفكر الغربي من أمثال السلطان محمود خان، ومحمد علي باشا وغيرهم ممن عمل على تنحية العمل بالشريعة الإسلامية، والتحاكم إلى القوانين الغربية.
ومنذ ذلك الحين أصبح البأس والصراع بيننا شديداً، وتمزقت الأمة الإسلامية إلى دويلات متناحرة ومتصارعة ومتحاربة، تفصل بينها الحدود الجغرافية المصطنعة، والنعرات العرقية الجاهلية، وترفرف في سمائها رايات القومية والوطنية وتدور بها الدوامات السياسية العالمية، فلا تملك أمتنا نفسها عن الدوران فضلًا عن أن تختار لنفسها المكان الذي تحب أن تدور فيه.
وبعد، فهذه خصال خمس استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بربه أن يحفظ أصحابه منها، فسلم منها أصحابه، لكنها كانت من نصيب أمته لما خالفوا أمر ربهم وسُنة نبيهم، وجاهروا بمعاصيه، وتعدوا حدوده ونواهيه جزاءً وفاقاً، فهذه سُنة الله تعالى في عباده، ولن تجد لسُنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.