تحمل ذكرى مرور 100 عام على إسقاط الخلافة الإسلامية العديد من التساؤلات والتحديات، في ظل ما تمر به الأمة من حالة ضعف وتفكك، واحتراب داخلي في عدد من الدول العربية، إضافة إلى صراعات إقليمية بين دول، دينها واحد، هو الإسلام.
إن الأمر جلل، ويستحق وقفات ومراجعات وقراءات جديدة للمشهد من زوايا عدة، شريطة أن تكون خارج الصندوق، في محاولة لصياغة أشكال وأطر وأنماط لخلافة جديدة بمقومات عصرية.
وربما من الخطأ استمرار النحيب والبكاء على اللبن المسكوب، في انتظار مرور 100 عام أخرى، لنحيي مستقبلاً ذكرى مرور 200 عام على إسقاط الخلافة، على يد القائد العسكري التركي مصطفى كمال أتاتورك، الذي نفذ مخطط إلغاء الخلافة العثمانية التي كانت تجمع تحت مظلتها الأقطار الإسلامية.
الآن.. 57 دولة منضوية تحت لواء منظمة المؤتمر الإسلامي، تتوزع على 4 قارات على مساحة تبلغ حوالي 32 مليون كم2؛ أي ما يقارب ربع مساحة اليابسة البالغة حوالي 149 مليون كم2، وتطل على أهم البحار والمحيطات والمضايق البحرية، وتمتلك ثروة من الموارد الطبيعة من المياه والنفط والغاز والذهب.
لتكن البداية من تركيا ذاتها، التي عادت من جديد لتقف على قدميها، بين أقوى 20 اقتصاداً في العالم، وسط مساع دؤوبة للقفز ضمن أكبر 10 اقتصادات عالميًا، وقد حققت الصادرات التركية قفزة هائلة في عام 2023م، متجاوزة حاجز 255 مليار دولار، رغم كارثة الزلزال، وجائحة كورونا، والحروب الإقليمية وتأثيراتها، بحسب بيانات صادرة عن جمعية المصدرين الأتراك.
عسكرياً، يحل الجيش التركي في المرتبة الأولى بمنطقة الشرق الأوسط، والـ11 عالمياً من بين 145 بلداً في التصنيف السنوي الدوري لأقوى جيوش العالم لعام 2023م، وفق موقع «غلوبال فايرباور» (Global Firepower) المتخصص في ترتيب الدول من النواحي العسكرية.
وعلى مستوى الفن، حلت الدراما التركية في المركز الثالث خلف الولايات المتحدة وبريطانيا، ضمن لائحة أكبر مصدري المسلسلات التلفزيونية، مسجلة زيادة مذهلة في الطلب العالمي على العروض التركية بنسبة 184% بين عامي 2020 و2023م، وفقًا لشركة «باروت آناليتيكس» للبيانات.
وتبث المسلسلات التركية في أكثر من 170 دولة حول العالم، وتصل إلى ما يقرب من 750 مليون شخص، بحسب باتوهان مومجو، نائب وزير الثقافة والسياحة التركي.
نحن إذن أمام حالة صعود تركي ونفوذ متنام؛ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً وفنياً، بشكل يحمل معه روحاً جديدة تستعيد دولة الخلافة بمنظور جديد، وفق موازين القوى الحالية، لتصبح أنقرة لاعباً إقليمياً ودولياً مؤثراً في ملفات مثل فلسطين وسورية والعراق وليبيا والسودان وأذربيجان وأرمينيا وأوكرانيا وشرقي المتوسط.
في المقابل، حينما يكون نحو ملياري مسلم عالة على العالم، أو بمعنى آخر أكثر استهلاكاً واستيراداً مقارنة بالشعوب والأمم الأخرى، فإننا بصدد حالة جُرم ثانية تتمثل في إسقاط الخلافة الإسلامية عن عمد، أو تأجيل استعادتها؛ عسكرياً واقتصادياً وثقافياً.
لنتصارح سوياً؛ إننا حين نحقق الاكتفاء الذاتي، ونكون قادرين على إنتاج ما يفي بحاجاتنا المادية والمعنوية وسد ثغراتنا المدنية والعسكرية، وقتها لن نكون عالة على أحد، ولن يتحكم في مصائرنا أحد، وهو الاستغناء والاكتفاء الذي يحقق لنا العزة التي كتبها الله في كتابه: ﴿وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: 8).
عند تصفح قائمة أكبر الدول العشر المصدرة للسلاح، سيتبين مدى الهيمنة الغربية، بداية من الولايات المتحدة (40%)، وروسيا (16%)، وفرنسا (11%)، والصين (5.2%)، وألمانيا (4.2%)، وإيطاليا (3.8%)، وبريطانيا (3.2%)، وإسبانيا (2.6%)، وكوريا الجنوبية (2.4%) و«إسرائيل» (2.3%).
بينما تتصدر 9 دول عربية قائمة الأكثر استيراداً للأسلحة في الفترة ما بين عامي 2018 و2022م، وهي: السعودية وقطر ومصر والإمارات والكويت والجزائر والمغرب والأردن والبحرين، وفق تقرير معهد ستوكهولهم الدولي لأبحاث السلام، مارس 2023م.
في ظل هذا الواقع، ألا تستحق أمة الملياري مسلم أن تنتج سلاحها وغذائها ودوائها، لتخرج من قوائم الأكثر استيراداً، بل تتبوأ مكانة متقدمة في قوائم الأكثر إنتاجاً وتصديراً، وهو شكل جديد من أشكال استعادة الخلافة، وفق متطلبات القرن الـ21.
ليس شرطاً أن تعود الخلافة بصورتها القديمة، وأن يكون هناك إمبراطور عثماني، أو ملك يحكم الشرق والغرب، ربما من الواقعية أن نتحرر من تلك الصورة، على أن يواكبها تحرر سياسي واقتصادي من التبعية للغرب، واستقلال حقيقي عن إرادة البيت الأبيض، وانتصار واقعي على الغزو الفكري والثقافي، ودحر لمخططات الهيمنة والتطبيع.
حينما نكون أمة واحدة، تحقن دماء أبنائها، وتعزز لُحمتها الداخلية، وتحل نزاعاتها الإقليمية، دون تدخل أجنبي، أو احتكام لمنظمات دولية وأممية لا تسمن ولا تغني من جوع، وقتها سنستعيد خلافتنا بمنظور جديد.
وعندما تهب الأمة، وتفزع أقطارها لنصرة أشقائنا في فلسطين، وإغاثة أهلنا في غزة، بالسلاح والمال والزاد والمقاطعة والدعاء، وكل السبل المتاحة، وفق ما يرتضيه الإسلام، فإننا نستعيد بعضاً من عبق وعزة الخلافة.
ختاماً، إذا تحالفت دول، دينها واحد، وربها واحد، ونبيها واحد، وتعاضدت فيما بينها، وأنعشت تجارتها وأسواقها، وتبادلت قمحها ونفطها، وأنتجت سلاحها ودواءها، وجعلت من العلم والعمل طريقها، سيكون العالم أمام قوة عظمى، وخلافة جديدة، بمقومات عصرية.