يُقصد بـ«النهوض المجتمعي» الارتقاء بالمجتمع بما يحقق استقراره ورفاهيته، وتصعيده إلى مستوى أفضل؛ اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وفكريًّا، وهو مطلب إنساني فطري؛ ما يفسِّر تعاقب الحضارات وسعي الأمم لتحسين قدراتها؛ رجاء اللحاق بركب التنمية المستدامة، والانعتاق من قائمة الدول المتخلفة، ولكي تكون أكثر قدرة على المقاومة، وهو بذلك يعد إستراتيجية أو رؤية لحاضر ومستقبل الأمة، وعملية حضارية لتلبية احتياجات ومتطلبات المجتمع، وخدمة العنصر البشري وتأمين حياة كريمة تليق به.
الواقع العربي
ولا يخرج العالم العربي عن الإطار العام التعريفي لهذا المصطلح؛ إلّا خصيصة الإسلام التي تجعله عصيًّا على التخلف؛ لما يحمل من قدرات تغييرية هائلة يصعب وجودها في مذاهب أخرى، ورغم ذلك فإن الواقع يؤكد أن مجتمعات العالم العربي في أمسّ الحاجة إلى النهوض، وأنها من أكثر المجتمعات بلاء بمعوقات التنمية؛ حيث لم تتجاوز بعدُ أسوار التخلّف، ولم تتهيأ لها الأجواء للحاق بعصر العولمة وإيجاد مكانة لائقة بين الأمم.
ويعود هذا التراجع بالأساس إلى عقود من الاحتلال الغربي الذي طمس هوية الأمة، ونجح إلى حد كبير في تغييب معالم النهضة، والإبقاء على دولنا مهيضة لا حول لها ولا قوة.
كما ابتُليت الأمة بعد ذلك ولعقود بأنظمة الاستبداد التي وأدت كل محاولة للنهوض، وغطّت على مجد غابر كان يمكن أن يكون مخرجًا من المأزق الحضاري الراهن.
حلم يراود الجميع
ولا شك أن أمر النهوض حلم يراود الجميع؛ للخروج من هذا الأسر الذي فُرض على الأمة فأذاقها ويلات التراجع والانحطاط، رغم ما تملك من طاقات بشرية وقدرات روحية، وما تتميز به أرضها وسماؤها وبحارها؛ ما يجعلها سيدة الحضارة، حادية ركب التقدم والسيادة، إذًا هو خيار لا مفرّ منه، وهدف ديني وقومي يلزمه بذل الاستطاعة لجعله واقعًا وليس رغبة أو أمانيّ، وهو ما يتطلب التعرف على معوقات التنمية وتحدياتها، وعلى سُبل التطور والنهوض، والتعامل معها بشكل منهجي علمي، ودراسة مشاريع وتجارب النهضة، وهي كثيرة، التي تخطت حواجز التأخر، وحققت منجزات مهمة وواعية فتحت أمامها آفاقًا للتفاعل الحضاري بما يحقق الصالح الإنساني.
ويعد الشعور بالأزمة البداية الصحيحة للخروج منها والسعي لتحقيق النهوض؛ أي التعرف على العلة، ثم مجابهة الواقع وتحمّل مسؤولية تحديه والإصرار على تغييره.
معوقات وتحديات
معلوم أن التخلف يعيق أي ازدهار أو تقدم، وأنه مانع للشعوب من أن تستفيد من إمكاناتها المادية والبشرية على السواء، وله مظاهر عدة تمثل معوقات أمام العمل الحضاري؛ أهمها:
– هيمنة الخرافات على قطاع كبير من مجتمعاتنا: نتج عنها تعطيل العقول، والرضا بالواقع بما فيه من ذل وإذعان، وذلك بسبب تراجع قيم الإيمان في النفوس، وغياب المُثل العليا، والهزيمة النفسية لأجيال فقدت بوصلة التوحيد، وانكفأت على واقعها البئيس.
– غياب الحريات السياسية: وهو أساس كل بلاء؛ لما يسببه من تعطيل للقوى البشرية، وما يجره من حصار وتبعية، وتهديد للكيان الاجتماعي بتكريس الفساد بشتى صوره وأشكاله.
– غياب الخطط والإستراتيجيات: وهو مترتب على فساد الأنظمة السياسية، وانفرادها بالسلطة، وغياب الشفافية، وعدم وجود خطط مناسبة، ووضع قيود أمام مبادرات علاج القصور، على المستويات كافة.
– عدم الاستقرار الاقتصادي: لغياب الرؤية الاقتصادية، أو لعدم القدرة على توظيف الموارد التوظيف الأمثل، أو للدوران في فلك الدول الغربية أو النظام العالمي، وهذا كله نتاج الحالة السياسية.
– الموروثات الاجتماعية: التي تقف في وجه التنمية؛ لتعارضها مع معتقداتها العصبية ومصالحها الخاصة، وما يتولد عنه من عدم احترام القانون، ومخالفة رأي المجموع، وإيجاد حالة من عدم الاستقرار المجتمعي.
مقومات النهوض
وإذا كنا جادين في تحقيق النهوض؛ فعلينا إعادة صياغة مقوماته، واليقين بأن نهضة الأمم تنطلق من إرادتها وتطلعها إلى مستقبل كريم، وما يستحثه من إثارة العقل والعمل الجمعييْن؛ فإن التغيير لا محالة يبدأ بالإرادة، والرغبة في التجويد والكمال، واستدعاء الحس الوطني، ومن تلك المقومات:
– إعلاء قيمة الإنسان: إذ الإنسان هو سرّ التقدم، وصانع التنمية بمعارفه وخبراته، وعقله وإرادته، بل هو رأسمال النهضة وركنها الركين، إن أُحسن استثماره ضمنّا تغييرًا حقيقيًّا وإنتاجًا ذا بال، ماديًّا ومعرفيًّا.
– ترسيخ الجوانب الأخلاقية: فلا تتم صناعة إنسان الحضارة الحقيقية إلا بترسيخ القيم والأخلاق، وإلا تفككت عُرى المجتمع وتفسخت أوصاله، فالصدق والأمانة والعدل والمروءة والتعاون إلخ جديرة بإيجاد العنصر البشري القادر على تخطي عقبات التخلف، وتشييد مجتمع حضاري قادر على النهوض بما يليق بأمجاد المسلمين.
– تكوين الأسرة الصالحة: ومن آحاد المجتمع تتكون الأسر؛ فإذا صلح الفرد صلحت الأسرة، وإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع، فالأسرة هي أهم المؤسسات المجتمعية على الإطلاق؛ تربويًّا وتعليميًّا وقيميًّا واقتصاديًّا، والمطلوب رفع كفاءة الأسرة في مواجهة معوقات التنمية، والاتجاه ناحية النهوض المنشود.
– تطوير مشاريع ومناهج التعليم: يظل التعليم الآلية القادرة على تغيير المجتمع، وتهيئته للقيام بمسؤوليات التنمية؛ ما يتطلب إعادة النظر في مشاريع ومناهج التعليم القائمة، وقد رأينا أممًا معاصرة اهتمت بتلك الناحية فجنت من ورائها تقدمًا وازدهارًا كبيرين، انعكس على جميع مجالات الحياة.
– تفعيل قيم المواطنة: وهي الحرية والمساواة والمشاركة، كضمانة للانخراط في العمل العام، والمساهمة في تطوير وبناء منظمات المجتمع المدني التي تقدم خدماتها للجماهير، وتسعى لتوعيتهم، وتمنع تغول السلطة ضدهم، وتنهض في معالجة الأمراض المجتمعية، وتقف ضد محاولات التهميش.
– الوعي بمسألة الاكتفاء الذاتي: فإنه لا رجاء في تحول نهضوي إلا بالاكتفاء غذائيًّا ودوائيًّا وتسليحيًّا، وهي أسلحة الآخر لإبقاء الأمم الضعيفة في فلك التبعية، بل هي مدار التقدم وأساس النهضة، فالغرض أن نكون أمة منتجة قائمة بذاتها ولسنا سوقًا لمنتجات الآخرين، ربما كان منهم العدو.