تستضيف باريس دورة الألعاب الأولمبية الصيفية ابتداء من 26 يوليو 2024م، ودائمًا ما يقال: إن المحافل الرياضية الكبرى فرصة للتعارف والتقارب والتسامح بين الدول والأفراد والثقافات في إطار من التنوع والحرية والتنافس الشريف، ولكن لفرنسا رؤية أخرى!
فقد أعلنت وزيرة الرياضة الفرنسية أنه سيتم منع الرياضيات الفرنسيات من ارتداء الحجاب خلال الدورة «احترامًا لمبادئ العَلمانية»! وردت اللجنة الأولمبية الدولية بقولها: «بالنسبة للقرية الأولمبية، سيتم تطبيق قواعد اللجنة، فلا توجد قيود على ارتداء الحجاب أو أي لباس ديني أو ثقافي آخر» (أي لغير الفرنسيات)، وانتقد مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الحظر قائلًا: إنه لا ينبغي لأحد أن يفرض على المرأة ما تحتاج إلى ارتدائه أو عدم ارتدائه.
تهدف الألعاب الأولمبية إلى جمع الدول معًا في عرض موحد للشمولية على المسرح العالمي، ولكن حظر الحجاب المثير للخلاف والتمييز يسلط الضوء على مدى ضجر فرنسا من بناء دولة حديثة متعددة الثقافات يكون المسلمون جزءاً فيها.
وفرنسا، الدولة التي تضم أكبر التجمعات المسلمة في أوروبا، 7 ملايين مسلم، لا تهدأ عن سن قوانين تحمل إرثاً استعمارياً وعنصرياً ترمي أساساً إلى محاربة الإسلام فيها، تحت ستار العلمانية.
قوانين عنصرية
بعد إقرار أول قانون لحظر الرموز الدينية في المدارس في عام 2004م، تم حظر النقاب في الشوارع الفرنسية في 2010م.
ثم أقر البرلمان في عام 2021م قانون «تعزيز العَلمانية وتقوية قيم الجمهورية»، وقد جرى التعريف به بداية باسم «مكافحة الإسلام الانفصالي»، وهو قانون يستهدف المسلمين بشكل خاص، ويفرض قيودًا على كافة مناحي حياتهم، ويفرض رقابة على المساجد والجمعيات التي تديرها، ويراقب تمويل المنظمات المدنية التابعة للمسلمين، ويضع قيودًا على حرية تقديم الأسر التعليم لأطفالها في المنازل.
ويُمنع موظفو الدولة من إظهار دينهم، ويُحظر ارتداء الحجاب على الأمهات المصاحبات للأطفال في الرحلات المدرسية، وتُمنع العباءة في المدارس ولو بدون غطاء للرأس، وحرمت محكمة النقض المحاميات المسلمات من ارتداء الحجاب أثناء المحاكمات.
فهل يُنظر إلى حظر ارتداء العباءة على أنه جزء من العلاقة الاستعمارية القائمة بين الدولة الفرنسية والمواطنين الفرنسيين المنحدرين من هجرة ما بعد الاستعمار؟ والدولة تشمل كذلك المسلمين من أصل فرنسي ضمن هذه العلاقة.
مصطلح العلمانية
طبقًا لقاموس أكسفورد للكنيسة المسيحية، فإن مصطلح العلمانية (Secularism) تمت صياغته عام 1850م للإشارة إلى نظام يسعى إلى ترتيب الحياة وتفسيرها على أساس مبادئ مأخوذة فقط من هذا العالم، دون اللجوء إلى الإيمان بالله والحياة المستقبلية، ويتم استخدام المصطلح الآن بمعنى أكثر عمومية للميل إلى تجاهل، إن لم يكن رفضاً، لمبادئ الدين(1).
والقواميس الإنجليزية تعرفه بأنه: «الاعتقاد بأن الدين لا ينبغي أن يمارس دورًا في الحكومة أو التعليم أو النواحي العامة الأخرى من المجتمع(2).
وقواميس الترجمة تترجمها إلى أن العِلمانية «عدم المبالاة بالدين، أو بالاعتبارات الدينية، والعلمنة: نزع الصفة الدينية عن نشاط ما(3).
وطبقاً لمعاجم اللغة العربية الحديثة فالعَلماني (عند الغربيين المسيحيين) من يعني بشؤون الدنيا، نسبة إلى العَلم (بفتح العين، وسكون اللام) بمعنى العالَم، وهو خلاف الكهنوتي(4).
ويرى العامري أن المصطلح مشتق من «العاَلم» وليس «العِلم»، والشكل الأصوب له هو «العالمانية» لا «العِلمانية»، ولا «العَلمانية»، وقدم تعريفاً للمصطلح وهو «مبدأ يقوم على إنكار مرجعية الدين أو سلكانه في تنظيم شؤون الناس، بعضها أو كلها، انطلاقًا من مرجعية الإنسان لإدراك الحقيقة والمنفعة الكامنتين في هذا العالم»(5).
تناقض مع الدستور
والترجمة الفرنسية لكلمة العَلمانية، هي «Laïcité»، وهي تشير إلى الأيديولوجية الحركية العلمانية التي نشأت بعد الثورة الفرنسية.
فمع استقرار الجمهورية الفرنسية الثالثة عام 1879م، فرضت العلمانية نفسها سياسيًا، حيث شكل العلمانيون أغلبية البرلمان، فأصدروا قوانين تحد من تدخل الكنيسة في الشؤون العامة خاصة التعليم والأحوال الشخصية، وقطعت العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان عام 1904م، ومع قيام الجمهورية الرابعة عام 1945م، كرس الدستور الفرنسي علمانية الدولة، ولكن لم تذكر كلمة «العلمانية» إلا في المادة الأولى من دستور الجمهورية الخامسة عام 1958م: «فرنسا جمهورية لا تتجزأ، وهي علمانية، وديمقراطية، واجتماعية، وتكفل مساواة جميع المواطنين أمام القانون دون تمييز يقوم على الأصل أو العرق أو الدين، وتحترم جميع المعتقدات».
ولكن ما يحدث في فرنسا تجاه المسلمين، من تضييق، وغلق للمساجد، وطرد الأئمة، والرقابة على المؤسسات الإسلامية ومنع الزي المرتبط بالمسلمات، يناقض الدستور العلماني المذكور أعلاه، إننا نشهد اليوم انفصامًا بين النظرية والتطبيق، بين مواد الدستور العلمانية، وتقنين «الإسلاموفوبيا».
العلمانية.. والحريات الدينية
إذا كانت العلمانية تعني في المقام الأول عدم كفاءة الكنيسة في الشؤون العامة والمجال الزمني، فإنها تتضمن بالمقابل عدم كفاءة الدولة في المجال الروحي، فالحرية الدينية شرط أول ومطلق، وبانتفائها تنتفي العلمانية من أساسها، والدولة العلمانية ليست دولة لا دينية، بل هي دولة لا طائفية، ليست هي الدولة التي تنكر الدين، بل هي الدولة التي لا تميز دينًا على دين(6).
أي نظريًا فالدولة محايدة وتترك المجال لحرية العقيدة، لكن تطبيق ذلك في فرنسا ينم عن انحياز ضد الإسلام.
وفيما يتعلق بالعلمنة؛ أي ما تفعله العلمانية، فقد عرّفها علماء الاجتماع بأنها «العملية التي يتم بها تحرير قطاعات المجتمع والثقافة من هيمنة المؤسسات والرموز الدينية»(7).
ولكن استخدام مصطلح «العلمانية» أحيانًا يركز على معناه السياسي؛ بمعنى الفصل النسبي بين الدولة والدين، وعدم التمييز بين الأديان، والضمانات المقدمة فيما يتعلق بحقوق الإنسان للمواطنين، بغض النظر عن عقيدتهم، ويجادل الفيلسوف تايلور بأن العلمانية السياسية تتطلب:
– ممارسة الحريات الدينية.
– عدم انحياز الدولة لصالح أي تسمية أو دين واحد.
– شمولية الثقافة السياسية، فيشارك الجميع، بمن في ذلك الجماعات الدينية، في تحديد الهوية السياسية للمجتمع، وكيفية تحقيق توافق في الآراء بشأن توزيع الحقوق والامتيازات.
– تعزيز العلاقات المتناغمة والحفاظ عليها بين جميع المجموعات، بمن في ذلك الجماعات الدينية(8).
وهذا ما يطالب به «المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث»، فقال: إن النظام العلماني الذي يحكم المجتمعات الأوروبية يترتب عليه التزامات من الدولة، أهمها حماية حرية الاعتقاد والممارسة الدينية، ومسلمو أوروبا في هذا المجال يريدون أن تعاملهم الدولة كما تعامل بقية الأديان الأخرى، ولا تكون علمانية منافسة أو مصادمة للأديان(9).
لقد احتفلت الألعاب الأولمبية تاريخيًا بالتنوع والوحدة والتميز الرياضي، ومن خلال إلزام حظر الحجاب على بناتها الرياضيات المسلمات، فإن الدولة المضيفة سترسل للعالم رسالة الإقصاء والتعصب والتمييز باسم «العلمانية» المنقوصة، وكأن شعار الجمهورية الفرنسية «الحرية والمساوة والإخاء» ليس إلا حبرًا على ورق!
_____________________________________
(1) The Concise Oxford Dictionary of the Christian Church, Oxford University Press.
(2) Britannica Dictionary, https://www.britannica.com/dictionary/secularism.
(3) البعلبكي، المورد الحديث، قاموس إنجليزي-عربي، دار العلم للملايين، 2009م: 1044.
(4) مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوجيز، دار التحرير، 1989م: 432.
(5) العامري، العالمانية طاعون العصر، المؤسسة العلمية الدعوية العالمية، 2017م: 52.
(6) طرابيشي، الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الإنماء العربي، 1988م: 914.
(7) Berger, The Sacred Canopy, New York: Doubleday, 1967:107.
(8) Taylor, What is Secularism, in Secularism, in Religion and Multicultural Citizenship, Levey and Modood, Cambridge University Press, 2009: vi-vii.
(9) المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، بيان حول منهجية التعامل مع الشأن الإسلامي في أوروبا 9/ 2/ 2021م.