يُعرّف الاحتكار بأنه حبس سلعة أو خدمة أو منفعة ما، وتأخير بيعها حتى يرتفع سعرها، باستغلال قلتها أو ندرتها، مع حاجة الناس إليها، ويكون هذا الاحتكار في النظم الرأسمالية المتوحشة التي تعظّم الملكية الخاصة على حساب مصالح الخلق، وتزداد بشاعته إذا كانت السوق لا تستوعب إلا منتجًا واحدًا، وأن هذا المنتج يحتاج إلى رأسمال كبير ولا يمكن توفيره إلا من خلال جهة معينة أو شخص بذاته، فهو نوع من السيطرة والإجبار المذمومين، ويتطلب من صاحبه قدرًا كبيرًا من الأنانية والتردي الأخلاقي من أجل التلاعب في السوق بالحيل والأساليب التي يتقنها هؤلاء المحتكرون، كأن يستغلون الحروب والأزمات للمتاجرة بحاجات الناس، أو يبثون الشائعات للترويج لمنتجاتهم؛ ما يفسح الطريق أمام المحتكر لبسط هيمنته على شعبه، بل تهديد كيان دولته.
آثار فظيعة
في حين يعظِّم الاحتكار حجم ثروة المحتكر في فترة وجيزة؛ فإنه يؤثر بالسلب على المستهلك للسلعة، بل على المجتمع ككل؛ فإنه يضعف المنافسة، ومن ثم يضعف جودة المنتج، ويؤدي إلى التضخم الذي يضعف القوة الشرائية للنقود، فيزداد الفقراء فقرًا، وإذ يطمئن المحتكر إلى حجم مدخوله جرّاء هذا الاحتكار فإنه يكون غير متحمس لضخ استثمارات جديدة لدعم الاقتصاد الوطني وتخفيف العبء عن الكادحين.
والحال هكذا، فالمتوقع نشوء أنواع من الفساد الإداري والرشى يضمن بها المحتكر بقاء الحال على ما هي عليه لأطول فترة ممكنة، ولا حدّ هنا، للأسف، لارتفاع الأسعار فيما لو كانت هناك منافسة عادلة وسوق طبيعية، كما لا ضمانة لكفاءة التوزيع، فإذا أضفنا إلى ذلك تمتع المحتكر بنوع من النفوذ السياسي أو الاجتماعي أو القبلي فقد ازداد الطين بلّة.
حُرمة الاحتكار
نهى الشرع عن الاحتكار للضرر الذي يسببه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ» (الإمام أحمد)، وقال صلى الله عليه وسلم: «من احتكر حُكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ» (أحمد والحاكم والبيهقي).
والإجماع على أن من استغلّ ظروف العامة واحتكر السلع ليبيعها بسعر أعلى فقد اقترف حرامًا؛ لاستغلاله احتياجهم وتضييقه عليهم وإيذائهم ماديًّا ومعنويًّا، ومعلوم نهي الإسلام عن الضرر والضرار، بل اعتبر البعضُ الاحتكارَ من الكبائر؛ لأنه ظلم بيّن ومحاربة للناس في أقواتهم، وقد برئ الله منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من احتكر طعامًا أربعين ليلة، فقد برئ من الله وبرئ منه» (أحمد والحاكم)، وورد عن السلف أنهم كانوا يتورعون عن الزيادة في الربح خوفًا من الوقوع في الاحتكار، راضين بالربح اليسير، لا لهم ولا عليهم، راجين من الله النجاة.
جدوى المقاطعة
جُعلت المقاطعة لعقاب المحتكر، يقوم بها الرافضون للاحتكار وسياسات المحتكرين وأفعالهم الضارة، وهي إحدى وسائل الدفاع عن النفس، وتعد أشد أنواع العقوبات الواقعة عليهم، التي توقف أطماعهم وتفسد خططهم، وهي سلاح الشعوب الفاعل، الذي ينبئ عن وعي جماهيري وفهم للواقع، ودليل على رغبة في التخلص من العجز والاستسلام أمام من لا يراعون مصالح مواطنيهم.
وإذا كان البعض يشوّش على حملات المقاطعة التي كثرت في مجتمعاتنا العربية في الآونة الأخيرة بدعاوى عدم القدرة على الاستغناء عن منتج المحتكر، أو أنها ستلحق الضرر بباقي حلقات سلسلة الإنتاج من المواطنين الذين يقومون بدور المغذِّي للمحتكر، مثل العمالة أو شركات النقل.. إلخ؛ فإنه يمكن الردّ على هذا التشويش بأن الواقع يؤكد عكس ذلك، وأنه بالفعل نجحت حملات مقاطعة شعبية نجاحًا كبيرًا في دول عربية، وكان المتضرر الأكبر هو المحتكر، أما الأضرار التي لحقت بالعمالة وغيرها فكانت طفيفة، بل سرعان ما تم تعويضها بطرق لا يتسع المقام لعرضها.
أين الحكومات؟
قبل الحديث عن دور الأسرة في مواجهة المحتكرين، لا بد من التأكيد على أن هذا الدور منوط بالأساس إلى الحكومات ومؤسساتها الرقابية، وإلى منظمات المجتمع المدني وبداخلها جمعيات ومؤسسات حماية المستهلك.
ويبدأ دور الحكومات من الرقابة على الأسواق، وإحكام السيطرة على ارتفاعات الأسعار المبالغ فيها وغير المبررة من جانب المحتكرين، وتشديد الإجراءات العقابية ضد المخالفين، وفي الوقت ذاته دعم السلع الأساسية، وتخفيف القيود على حركتها، وتخفيض رسومها وضرائبها بما يقلل الأعباء عن كاهل المواطنين.
إذًا، من أجل مقاطعة شعبية ناجحة يكون للأسرة فيها دور ملموس، لا بد من تدخل رسمي أولًا لتفعيل التشريعات لمواجهة هذه الجريمة، وفي الوقت ذاته أن تحرص الدولة على الدخول بنفسها في معترك المنافسة؛ بإيجاد البدائل، وتوفير المنافذ السلعية، وإقامة المعارض الكفيلة بتبوير تجارة المحتكرين.
الدور الفاعل لمنظمات المجتمع المدني
في واقعنا المعاصر، كثيرًا ما أنجحت منظمات المجتمع المدني المختصة بحماية المستهلك حملات مقاطعة المحتكرين، بل كانت قاطرة هذه المقاطعة ووسيلة ضغط جيدة على الحكومات لكبح جماح المستغلين، والتصدي لأي مخالفات غرضها احتكار السلع أو منعها من التداول بين المواطنين.
ومن مهام منظمات المجتمع المدني تكريس وعي المستهلك إزاء جشع التجار، فلا يكونون عُرضة للابتزاز أو الاحتكار أو الخداع، أو ضحية لفشل الرقابة الحكومية، وتشجيع ثقافة المقاطعة والتعلم من تجارب الآخرين.
ولم تبق دولة ذات سيادة الآن إلا وبها أنشطة لهذه المنظمات، مع اختلاف في قدراتها وإنجازاتها وهامش الحرية المسموح لها بالتحرك في إطاره، لكنها مع أضعف الإيمان تكون هي الموجه الفاعل لحملات المقاطعة، والصلة بين الحكومة والشعب، ولديها القدرة على وضع الخطط لمنع تسلط المحتكر والتخفيف عن المواطنين، وهي من تتولى في غياب الرقابة الرسمية تحريك الدعاوى القضائية ضد المستغلين، وإدخال تشريعات جديدة من شأنها منع الاحتكار من الأساس، أو تشديد العقوبة على فاعله.
دور الأسرة في مواجهة المحتكرين
للأسرة دور كبير في هذه القضية، فهي اللبنة التي يتكون منها المجتمع، والوحدة الصغرى للمكوّن الشعبي، فوجب لنجاح مقاطعة المحتكرين ما يلي:
– أن يكون للأسرة، منذ البداية، رؤية وموقف إزاء محتكري السلع، وأن يكون هذا الموقف إيجابيًّا يرعى موقف الدين من هذا العمل البغيض، ونتائجه الوخيمة على البلاد والعباد، وأن هذه الجريمة من مهددات السلم المجتمعي.
– ومن الإيجابية المشاركة المجتمعية والعمل الطوعي، من جانب الزوج والزوجة والأولاد، في هذا الأمر، والاستجابة لأي دعوة ينتج عنها ضبط الأسواق ومنع الجشع والاستغلال.
– على الأبوين تنشئة الأبناء على ألّا يتسببوا في أن يكون المال دُولةً بين أغنياء المجتمع، ويحرموا –من ثَمَّ- منه الفقراء، فالمحتكر ليس له جزاء إلا الامتناع عن الشراء منه وترك سلعته تبور، وأما التاجر الفقير الصدوق فمستحق للدعم والمساندة.
– رفض التعاطي مع أي سلعة يكون سعرها غير عادل، والاستغناء عنها ببديل أو بدون لتكسد عند صاحبها، ولن تتوقف الحياة على سلعة أو 10 سلع، وقد وسّع الله على الناس أقواتهم حتى أُصيب كثير منهم بالتخمة.
– مراعاة التعاون والتساند بين الجيران وبعضهم بعضاً، والأصدقاء، والأقارب، والزملاء في إيجاد البدائل المناسبة، والتذكير بالصبر عليها إن لم تكن في جودة السلعة المُقَاطَعة؛ لأجل إنجاح حملات المقاطعة وعدم النكوص، فتكون فرصة للمحتكر لفرض مزيد من احتكاراته.