مَن أحسَن اللجوء إلى الله كفاه، وجبر خاطره على أحسن ما يكون الجبر، ويدل على ذلك قول الله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40)، ففي الآية الكريمة دليل على أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة من مكة إلى المدينة حين دخل الغار، وقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا»، إنه صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى ربه ويستحضر معيته، التي تذهب الخوف والحزن، ولهذا جبر الله خاطره، فأنزل السكينة على قلبه، وأيده بجنده ونصر دعوته، فهذا موقف من المواقف التي قصها القرآن الكريم في جبر الخواطر، فما مظاهر جبر الخواطر في ضوء القرآن الكريم؟
الله تعالى هو الجبار
لقد أكد القرآن الكريم أن الله تعالى سمى نفسه الجبار، فقال عز وجل: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الحشر: 23)، والجبار هو الذي يجبر المكسور، فيسري عنه ويصبره، ثم هو الجبار الذي ينتقم من الظالم، فجبر الخاطر؛ يعني: تطييب القلوب والنفوس، وتقديم الدعم والتآزر لها، حتى تسكن وتطمئن، والله تعالى يجبر خواطر عباده في الدنيا والآخرة.
الله تعالى يجبر خاطر رسوله صلى الله عليه وسلم
إن الله تعالى جبر خاطر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن وعده أن يرده إلى مكة لتعلق قلبه صلى الله عليه وسلم بها، ولهذا أنزل عليه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (القصص: 85)، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أحب مكة التي ولد فيها ونشأ أُخرج منها ظلماً، فاحتاج في هذا الموقف الصعب وهذا الفراق الأليم إلى شيء من المواساة والصبر، فأنزل الله تعالى له قرآناً مؤكداً بقسم؛ أن الذي فرض عليك القرآن وأرسلك رسولاً وأمرك بتبليغ شرعه سيردك إلى موطنك مكة عزيزاً منتصراً، وهذا ما حصل.
ومن جبر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قوله له: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (الضحى: 5)، فما أجمل العطاء المستمر في هذه الآية حتى يصل بالمسلم لحالة الرضا! فهذه الآية رسالة إلى كل مهموم ومغموم، وتسلية لصاحب الحاجة، وفرج لكل من وقع ببلاء وفتنة؛ أن الله تعالى يجبر كل قلب لجأ إليه بصدق.
وفي صحيح مسلم عن عبداللَّه بن عَمْرو بن العاص، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَلا قَول اللَّهِ تعالى في إِبراهِيمَ عليه الصلاة والسلام: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم: 36)، وَقَوْلَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة: 118)، فَرَفَعَ يَدَيْه وَقالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى»، فَقَالَ اللَّه تعالى: «يَا جبريلُ، اذْهَبْ إِلى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فسَلْهُ: مَا يُبْكِيهِ؟»، فَأَتَاهُ جبرِيلُ، فَأَخْبَرَهُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ، وَهُو أَعْلَمُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «يَا جِبريلُ، اذهَبْ إِلى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرضِيكَ في أُمَّتِكَ وَلا نَسُوؤُكَ».
الله تعالى يجبر خواطر عباده في الدنيا
أما جبر الله سبحانه خواطرنا في الدنيا فيظهر في النِّعَم التي ينعم بها علينا، فقد جبر خواطرنا حين أنعم علينا بالصحة والعافية والأموال والأولاد والوظائف والمناصب، إن الله عز وجل يجبر خواطرنا بإجابة الدعاء، فقد جبر الله خاطر نبيه إبراهيم فوهبه الولد، وجبر الله خاطر نبيه أيوب فوهبه الشفاء، وجبر الله خاطر نبيه نوحاً، حين دعاه أن ينصره، ففتح له أبواب السماء، وجبر الله خاطر نبيه يونس فنجاه من الظلمات الثلاث، ظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة جوف الحوت.
الله تعالى يجبر خواطر عباده في الآخرة
يجبر الله تعالى خواطر عباده يوم القيامة فيغفر الذنوب، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ، فيَقولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ»، ففي هذا الحديث تأكيد على تعريف الله تعالى عبده بذنوبه ثم ستره عز وجل له ثم مغفرتها له، جبرا لخاطره.
الله تعالى يجبر خواطر عباده في الجنة
لا يجبر الله تعالى خواطر عباده في يوم الحساب فقط، بل إنه يجبر خواطرهم بعد أن يدخلوا الجنة أيضاً، ففي سنن ابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا خَلَّصَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّارِ وَأَمِنُوا، فَمَا مُجَادَلَةُ أَحَدِكُمْ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَقِّ يَكُونُ لَهُ فِي الدُّنْيَا، أَشَدَّ مُجَادَلَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ، قَالَ: يَقُولُونَ: رَبَّنَا، إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَحُجُّونَ مَعَنَا، فَأَدْخَلْتَهُمُ النَّارَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا، فَأَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ، فَيَأْتُونَهُمْ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ، لَا تَأْكُلُ النَّارُ صُوَرَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ النَّارُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى كَعْبَيْهِ، فَيُخْرِجُونَهُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، أَخْرَجْنَا مَنْ قَدْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يَقُولُ: أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ دِينَارٍ مِنَ الْإِيمَانِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ نِصْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ».
الله تعالى يأمر بجبر الخواطر وينهى عن كسرها
لقد أمرنا الله تعالى بجبر الخواطر، فعندما حدد أنصبة المواريث، وجعلها في غاية الوضوح، أمرنا حين القسمة إذا حضرها بعض من ليس لهم حق في الميراث أن نعطيهم منه، جبراً لخاطرهم، وهؤلاء هم الأقربون واليتامى والمساكين، حيث قال عز وجل: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) (النساء: 8)، فقد راعى الحق تعالى خواطرهم، وأمر بصرف بعض العطاء لهم، بل إنه أكد أن نقول لهم قولاً معروفاً، حتى لا نجرح مشاعرهم أو نؤذي خواطرهم، فقد نهى الله تعالى عن كسر خواطر الناس، ومن ذلك حين ترى يتيماً أو مسكيناً أو سائلاً، فعليك أن تجبر خواطرهم بالعطاء إن استطعت وعدم الإهانة على الإطلاق، حيث قال عز وجل: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ {9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) (الضحى).
بل إنه سبحانه وتعالى أوضح أن المؤمن قد يضيع ثواب عمله إذا كسر خاطر الناس، فإذا تصدقت بصدقة فلا تؤذ آخذها بسيئ الكلام أو تمُنّ عليه بالعطاء، فإن هذا يضيع ثواب الصدقة، بل إن قول المعروف أولى من العطاء المتبوع بالمن والأذى، قال تعالى: (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ {263} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى) (البقرة).
بل إن الله تعالى جمع في القرآن الكريم بين المكذبين بالدين ومن يكسرون خواطر الناس ويمنعون عنهم العطاء الموجود، فقد توعدهم الله تعالى في قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ {1} فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ {2} وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ {3} فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ {4} الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ {5} الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ {6} وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون).