لا يستطيع أحد أن ينكر أن «طوفان الأقصى» شكلت أخطر حدث في العقد الثالث من هذا القرن، فقد وقعت كالصاعقة على الكيان الصهيوني وراعيته الأولى أمريكا، الإمبراطورية التي هيمنت على العالم منذ أربعينيات القرن الماضي، وانفردت بقيادته في العقود الثلاثة الأخيرة، كانت المفاجأة على أمريكا مزلزلة، فقد اجتمع الرئيس الأمريكي جو بايدن فوراً بكبار أعضاء فريقه للأمن القومي، وهرع وزير الخارجية توني بلينكن، وألقى بايدن كلمة مختصرة لإعلان دعمه المطلق للكيان، لم تستغرق أكثر من دقيقتين، بعدما تحدث هاتفياً مع رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو.
في غضون ساعات، بدأت الولايات المتحدة في تحريك السفن الحربية والطائرات إلى المنطقة لتكون جاهزة لتزويد الكيان الصهيوني بكل ما يحتاجه وزيادة، لمواصلة حرب إبادة معلنة على أكثر من مليوني لاجئ في غزة، وهذا يفسر العلاقة العضوية بين الكيان الصهيوني وأمريكا، وكأنهما كيان واحد، وهذه هي الحقيقة التي لا يخفونها، فهي كما يقول العالم البريطاني هالفورد ماكندر، قاعدة متقدمة للسيطرة على قلب العالم؛ لأن من يسيطر على قلب العالم يسيطر على العالم كله، فالسيطرة على هذه المنطقة هدف إستراتيجي للاستعمار الغربي (أمريكا وأوروبا الغربية)، والكيان الكيان الصهيوني هو الذي يحقق الهدف.
لقد وصل إجمالي المساعدات الأمريكية المقدمة للكيان الصهيوني بحسب بيانات «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية»، في الفترة بين عامي 1946 و2023م، إلى نحو 260 مليار دولار، وأفاد تقرير نشرته «واشنطن بوست»، في مايو 2024م، بأن أمريكا قدمت مساعدات عسكرية بقيمة 6.5 مليارات دولار لـ«إسرائيل» منذ بدء حربها على قطاع غزة، نصفها في مايو فقط!
التاريخ لن يعيد نفسه
في صيف عام 1929م، قامت ثورة البراق في فلسطين، وحينها كاد العرب أن ينجحوا في تصفية الوجود الصهيوني في فلسطين لولا تدخل بريطانيا العظمى، سيدة البحار، بقوات احتلالها لفلسطين وأخرى استدعتها من مصر، وعندها أيقن الصهاينة ألا قِبل لهم وحدهم بالعرب، واليوم تلقي أمريكا، سيدة العالم، بكل قواتها وتضخ ملياراتها، لإنقاذ قاعدتها المسيطرة على قلب العالم.
ونجحت بريطانيا آنذاك في المحافظة على المشروع الغربي الصهيوأمريكي، حتى أصبح المشروع دولة معترف بها من منظماتهم الدولية، فقد أفشلت بريطانيا ثورة البراق عام 1929م، وثورة عام 1936م باستخدام الدهاء والقمع والخيانة، وحافظت على الصهاينة ودعمتهم حتى أقامت لهم الدولة في عام 1948م، وبعد ذلك تعهدت أمريكا الكيان الوليد بالدعم والرعاية والتمويل، ليصبح الأقوى بالمنطقة.
ظن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة أن الأمور استقرت في الشرق الأوسط، وأن الشعوب، وخصوصاً الشعب الفلسطيني قد خضعوا واستكانوا، وفي 29 سبتمبر 2023م، قال مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان: «إن منطقة الشرق الأوسط اليوم أكثر هدوءاً مما كانت عليه منذ عقدين من الزمان»! ولكن جاءت «طوفان الأقصى» لتخلط الأوراق وتربك الغرب وأمريكا إرباكاً لم يخطر لهم على بال، فأمريكا اليوم ليست هي أمريكا الأمس، فأمريكا اليوم تجاوزت مرحلة الفتوة، وتستعد للنزول من سماء التحكم والغطرسة والانكماش في حدودها، وهي مصابة بأمراض اقتصادية، واجتماعية وأخلاقية ستجبرها على حتماً على التراجع، هذا ما يقوله زبيجنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق.
تراجع اقتصادي حاد
أمريكا، كما يقول هارولد ماكميلان، تعاني من أمراض اقتصادية ستجبرها على الانكفاء على ذاتها، ويقول بيرني ساندرو، عضو الكونجرس الأمريكي البارز: الاقتصاد الأمريكي مدفوع باحتياجات الأثرياء والأقوياء، وهو اقتصاد غير مستدام وغير قابل للاستمرار، لدينا نظام مزور، ولدينا نظام يدور حول جشع الأثرياء والأقوياء، فأمريكا تعاني من أمراض اقتصادية مزمنة لا أمل في الشفاء منها، تتمثل في:
– عدم المساواة في الدخل:
وهذه معضلة أمريكية ليس لها حل، حيث يمتلك أعلى 1% من أصحاب الدخول 38.6% من ثروة البلاد، بينما يمتلك أدنى 90% نحو 27.4% فقط حسب بنك الاحتياطي الفيدرالي، ولم يرتفع متوسط دخل الأسرة بشكل كبير منذ سبعينيات القرن العشرين، بينما شهد أعلى 10% من أصحاب الدخول زيادة كبيرة في الدخل، حسب مكتب الإحصاء الأمريكي.
– ارتفاع غير مسبوق في الديون:
يبلغ الدين الوطني للولايات المتحدة حاليًا أكثر من 28 تريليون دولار، ومن المتوقع أن يصل العجز السنوي إلى تريليون دولار بحلول عام 2025م، حسب بيانات وزارة الخزانة الأمريكية، ويبلغ متوسط ديون الأسرة الأمريكية 151 ألف دولار، تشمل الرهن العقاري وبطاقات الائتمان والقروض الطلابية، حسب بنك الاحتياطي الفيدرالي.
– ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية:
ارتفع متوسط قسط التأمين الصحي السنوي لأسرة مكونة من 4 أفراد بنسبة 155% منذ عام 2000م، أي ارتفع من 4400 دولار إلى 11 ألف دولار، كما تقول مؤسسة كايزر فاميلي؛ ولذلك يضطر المواطن الأمريكي لإنفاق 1200 دولار في المتوسط سنوياً علاوة على نفقات الرعاية الصحية، كما تقول الرابطة الوطنية لمفوضي التأمين.
– غلاء تكاليف التعليم وارتفاع نسب البطالة:
زادت رسوم الدراسة الجامعية في الكليات العامة التي تستغرق الدراسة فيها 4 سنوات بنسبة 543% منذ عام 1985م، من 2700 دولار إلى 15 ألف دولار سنوياً، حسب كوليج بوورد، ووصل إجمالي ديون قروض الطلاب المستحقة في الولايات المتحدة إلى 1.7 تريليون دولار، حيث يبلغ متوسط ديون الطالب الواحد 31300 دولار، حسب بنك الاحتياطي الفيدرالي.
ووفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن مكتب إحصاءات العمل (BLS)، بلغ معدل البطالة في الولايات المتحدة 3.6% في يناير 2023م، وهذا يعني وفقاً لنفس المصدر أن هناك ما يقرب من 5.7 ملايين عاطل عن العمل في أمريكا.
– اهتراء البنية الأساسية:
تقدر الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين أن الولايات المتحدة بحاجة إلى استثمار تريليوني دولار لجعل طرقها وجسورها في حالة جيدة، وحسب لجنة الاتصالات الفيدرالية يفتقر أكثر من 30% من الأمريكيين إلى الوصول إلى الإنترنت عالي السرعة، وقد قُدِّرت تكلفة النطاق العريض الريفي بنحو 100 مليار دولار.
نهاية الهيمنة
منحنى الهيمنة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية في هبوط لا تخطئه العين المجردة، والتأثير الأمريكي على دول العالم آخذ في الانخفاض بشكل حاد منذ بداية القرن الحادي والعشرين، هكذا يقول زبيجنيو بريجنسكي، وهو عالم جغرافي أمريكي بولندي، مستشار سابق للأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر.
ففي كتابه «تشريح القوة الوطنية: الأزمة الدولية» (2001م)، يجادل بريجنسكي بأن لحظة هيمنة الولايات المتحدة الأحادية القطب بعد الحرب الباردة لا بد أن تفسح المجال لعالم متعدد الأقطاب، يتميز بنفوذ اقتصادي وسياسي متزايد لدول مثل الصين والهند.. ولا شك أنه سيكون لهذا أبلغ الأثر على الكيان الصهيوني، فهو لم يستغن يوماً عن الدعم الأمريكي غير المحدود، في كافة المجالات.
وأشار برنارد لويس، المؤرخ اليهودي المتعصب، الخبير في شؤون الشرق الأوسط، في مقال له عام 2006م بعنوان «المأزق الإسرائيلي»، إلى أن صعود القوى العالمية الأخرى، وخاصة الصين، من شأنه أن يؤدي إلى إعادة توازن القوى في الشرق الأوسط، الأمر الذي يهدد أمن «إسرائيل».
وحذر عضو الكنيست يائير جولان، وهو لواء سابق وسياسي «إسرائيلي»، في خطاب ألقاه في عام 2016م، من أن تراجع القوة الأمريكية من شأنه أن يخلق تهديداً وجودياً لـ«إسرائيل».
وحسب معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، حذر الإستراتيجي «الإسرائيلي» الأمريكي ديفيد ماكوفسكي، في عام 2019م، من أن تراجع الهيمنة الأمريكية قد يؤدي إلى وضع كارثي لـ«إسرائيل»، وكتب المفكر «الإسرائيلي» إيلي ليك في عام 2020م مقالاً في «الديلي بيست» قال فيه: إنه إذا لم تعد الولايات المتحدة القوة العالمية المهيمنة، فسيتعين على «إسرائيل» الدفاع عن نفسها ضد أعدائها، مما قد يؤدي إلى نتيجة مروعة.
خيارا النهاية
تحدث الكثير من الخبراء عن سيناريوهات محتملة لنهاية الكيان الصهيوني، أبرزها خياران هما، خيار شمشون، وخيار جنوب أفريقيا.
1- خيار شمشون:
الإستراتيجي العسكري «الإسرائيلي» إيهود سبرينزاك هو الذي صاغ مصطلح «خيار شمشون» لوصف استعداد «إسرائيل» لاستخدام ترسانتها النووية رداً على تهديد وجودي، وقد أثار هذا المفهوم جدلاً وقلقاً شديدين بين العلماء وصناع السياسات والخبراء النوويين، وكتب تامير ليبل، الخبير الرائد في السياسة النووية «الإسرائيلية»، على نطاق واسع عن «خيار شمشون»، ويخلص إلى أنه في حين لم تستبعد «إسرائيل» صراحة استخدام الأسلحة النووية في ظروف متطرفة، فإن هذا المفهوم رمزي إلى حد كبير وليس إستراتيجية عسكرية قابلة للتطبيق، وأغلب المحللين يميلون لهذا الرأي، أن استخدام النووي مستبعد إلا في ظروف متطرفة جداً.
2- خيار جنوب أفريقيا:
فكرة تطبيق الحل الجنوب أفريقي للصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني تشير إلى مفهوم العدالة الانتقالية، حيث يتم التعامل مع الماضي المر المثير للجدل من خلال الشفافية والمساءلة والتعويضات، وقد تم تطبيق هذا النهج في جنوب أفريقيا خلال حقبة ما بعد الفصل العنصري، ويذكر أن جنوب أفريقيا كانت أيضاً دولة نووية.
ويرى الفيلسوف واللغوي البارز نعوم تشومسكي أن هناك أوجه تشابه بين الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني والنضال الجنوب أفريقي ضد الفصل العنصري، وأن كلا الصراعين يتطلبان عملية المصالحة وقول الحقيقة والمساءلة.
وقد استكشفت شبكة المفاوضات، وهي مبادرة بحثية يقودها الصحفي الأمريكي البارز ناثان ثرال، إمكانية تطبيق عملية العدالة الانتقالية على غرار جنوب أفريقيا في الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني، ويرى أن هذا النهج يمكن أن يؤدي إلى سلام أكثر ديمومة واستدامة، ويعتقد ناشط السلام والفيلسوف «الإسرائيلي» الراحل أوري أفنيري أن التجربة الجنوب أفريقية تقدم دروساً قيمة لحل الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني.
حتى قادة الكيان الصهيوني يرون أن البقاء الدائم لهذا الكيان الاستيطاني الإحلالي على هذه الأرض وبين هذه الشعوب مستحيل، وهذا ما عبر عنه رئيس حكومة الاحتلال السابق نفتالي بنيت الذي قال: إنه لم تصمد فوق هذه الأرض دولة يهودية سيادية وموحدة، لمدة تزيد على 80 عاماً.
أنفاسها الأخيرة
نشر الكاتب «الإسرائيلي» آري شبيت مقالاً له في صحيفة «هاآرتس» تحت عنوان «إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة»، شرح فيه الخداع الذي يمارسه هذا الكيان بشأن وجوده على أرض فلسطين حيث قال: إن «الإسرائيليين» منذ أن جاؤوا إلى فلسطين يدركون أنهم حصيلة كذبة ابتدعتها الحركة الصهيونية، استخدمت خلالها كل المكر في الشخصية اليهودية عبر التاريخ، ومن خلال استغلال ما سمي المحرقة على يد هتلر (الهولوكوست) وتضخيمها، استطاعت الحركة أن تقنع العالم بأن فلسطين هي «أرض الميعاد»، وأن الهيكل المزعوم موجود تحت المسجد، وهكذا تحول الذئب إلى حمَل يرضع من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين والأوروبيين.
جاءت «طوفان الأقصى» لتظهر ما غاب من حقائق، وتفضح ما اشتهر من أكاذيب، ولتنبه الغافلين بأن العالم قد تغير ليس في صالح المشروع الغربي الصهيوأمريكي هذه المرة، كما حدث في الحرب العالمية الثانية، عندما ورثت البروتستانتية الأمريكية الموالية للصهيونية بروتستانتية بريطانيا التي صنعت الصهيونية، وليس هذا هو التغير الوحيد وإن كان هو التغير الأبرز، ولكن هناك تغييرات أخرى حاسمة في الإعلام والسياسة وفي الوعي الفلسطيني والعربي والدولي.
________________________
1- رقعة الشطرنج الكبرى: التفوق الأمريكي وضروراته الجيوستراتيجية، زبيجنيو بريجنسكي (1997م).
2- كتاب «السعي وراء القوة»، هارولد ماكميلان.
3- ناعوم تشومسكي (2008م)، غزة في أزمة: تأملات في إدارة أوباما، بلوتو برس.
4- ناثان ثرال (2017م)، إسرائيل وفلسطين: سلام مكتسب بشق الأنفس، شبكة المفاوضات.
5- مايكل سفارد (2013م)، قوة الحقيقة: إنهاء الصمت بشأن جرائم الحرب الإسرائيلية، هايماركت بوكس.
6- يوري أفنيري (2011م)، الصراع الإسرائيلي العربي: منظور شخصي، فرانك كاس للنشر.
7- مجموعة الأزمات الدولية (2017م)، غزة: حان الوقت لإعادة الهندسة.