تعاني أسر عدة من سفر عائلها فترات طويلة، مسبباً فراغاً كبيراً للزوجة والأبناء، ينعكس بالسلب في كثير من الأحيان، مع فقدان الجانب التربوي والعاطفي الذي يمثله الأب والزوج، فضلاً عن حالة عدم الاستقرار التي يشعر بها أفراد الأسرة؛ ما قد يدفع أفرادها إلى انحرافات خطيرة، أو تراجع كبير في حالة الاتزان النفسي للأبناء، وكذلك الزوجة.
في هذا السياق، تحذر دراسات علمية من أن تأثر الأسرة باغتراب الأب، قد يرفع لدى أفرادها الميل نحو الانحراف بنسبة 70% عن غيرها، نتيجة غياب التوجيه الأبوي، والمبالغة في الإنفاق المالي؛ لتعويض غياب الأب.
«المجتمع» تطرح القضية للنقاش على مائدة خبراء وعلماء النفس والاجتماع والشرع، في هذا التحقيق.
تقول د. هيام صابر، أستاذ الصحة النفسية بجامعة عين شمس: إن أسر المغتربين تصاب بحالة من عدم الاستقرار النفسي، وخاصة أطفال المغترب الذين يصابون بما يطلق عليه «متلازمة الاغتراب الأبوي» التي توصل إليها الطبيب النفسي الأمريكي ريتشارد جاردنير في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حيث أكد إصابة هؤلاء الأطفال بعدد من الأعراض غير الطبيعية، والسلوكيات غير المنضبطة نتيجة غياب التوجيه الأبوي وسيطرة الأم وأهلها –في غالبية الأحوال- على أفكارهم.
كلما زادت فترة اغتراب الزوج زادت الفجوة بينه وبين زوجته
وقد يتعرض أولاد المغترب إلى تلاعب بأفكارهم واستمالة مشاعرهم في حالة وجود عدم توافق أو تفاهم بين الزوجين، حيث تقوم الزوجة وأهلها بتشويه سمعة الأب المغترب، وتقل خطورة الأعراض السابقة في حالة تفهم الزوجة لما يقوم به زوجها الذي يجب أن تكون فترة غيابه قصيرة -قدر الإمكان- حتى لا يشعر أولاده أنه غريب عنهم.
وتحذر من إفراط الآباء المغتربين في الحنان العاطفي والمبالغة في الإنفاق المادي على أولادهم خلال فترة الإجازة كنوع من التعويض عن الحرمان؛ لأن هذا يأتي بنتيجة عكسية حيث يزداد تعلقهم به مما يؤثر عليهم سلباً عند غيابه وسفره مرة أخرى، وخاصة إذا حاول من خلال ذلك سحب البساط التربوي والعاطفي من تحت والدتهم، إذا كانوا يعتمدون عليها بشكل كامل خلال اغترابه لسنوات، لأنه كلما زادت فترة اغتراب الأب زادت الفجوة العاطفية والحوارية بينه بين أبنائه، بل وزوجته وأهلها.
أخطار اجتماعية
ويؤكد د. نبيل السمالوطي، أستاذ علم الاجتماع العميد السابق لكلية الدراسات الإنسانية- جامعة الأزهر، أن الأبحاث الاجتماعية والنفسية الميدانية تؤكد أن أبناء المغترب تصيبهم بدرجات متفاوتة ضعف العلاقات الاجتماعية نتيجة إصابتهم بالقلق والاكتئاب والخوف وعدم الثقة بالنفس واضطرابات النوم والنقص في الاستيعاب والتركيز والتحصيل الدراسي، ومقارنة أحوالهم بأحوال من يعيشون مع آبائهم الذين يمثلون سنداً في الحياة، وتزداد هذه الآثار لدى الإناث أكثر من الذكور، ولا يمكن لذوي الرحم القريبين منهم –مهما كانت درجة قرابتهم- تعويضهم عن الأب.
ويحذر السمالوطي الأب المغرق في غربته لجمع الأموال من أنه يجمع لهم ما يضيعهم به؛ لأن كثرة الأموال مع غياب الرقابة والتوجيه هو مضيعة للأولاد ولهذا صدق أحمد الشعراء أحمد شوقي حين قال:
ليـسَ اليتيمُ من انتهى أبواهُ من هـمِّ الحـياةِ، وخلّفاهُ ذليـلا
فأصـابَ بالدنيـا الحكيمـة منهما وبحُسْنِ تربيـةِ الزمـانِ بديـلا
إنَّ اليتيمَ هـوَ الذي تلقـى لَـهُ أمّاً تخلّـتْ أو أبَاً مشغـولا
ويوضح أن الغربة تحدث فجوات عاطفية وثقافية واجتماعية بين أفراد الأسرة، وقد تتحول هذه الفجوات إلى شروخ وتصدعات، تنذر بانهيار الأسرة إذا لم يتم ترميم جدار التماسك الأسري، وليست الأموال فقط قادرة على رأب هذه الصدع الأسري سواء بين الأبناء وأبيهم أو حتى بين الزوجين، وخاصة أننا نعيش في عصر تحاصرنا فيه الفتن كل ساعة وفي كل مكان، ولا يستطيع الثبات والتصدي لهذه الفتن أي إنسان في الظروف العادية، فما بالنا بسفينة بها ركاب ضعاف –الأم والأبناء- وتركهم ربان السفينة وسط بحار أمواجها عاتية، ومن المؤكد أنه لن ينج من هذه الفتنة إلا من رحم ربي!
كثرة الأموال مع غياب الرقابة والتوجيه مضيعة للأبناء
وينصح السمالوطي بالتقليل من مدة الاغتراب قدر الإمكان، والسيطرة على طموحات اكتناز وجمع الأموال، وسرعة اتخاذ القرار في جمع شمل الأسرة سواء باصطحابهم معه في الغربة، أو الرجوع إليهم ليستقر معهم ويقود سفينة حياتهم، كما عليه أن يحرص خلال اغترابه على التواصل المستمر معهم ومتابعة أخبارهم باستمرار من خلال وسائل التواصل الحديثة ليقلل من آثار الفجوات والشروخ العاطفية.
ضوابط شرعية
وعن الضوابط الشرعية لاغتراب الأب عن أسرته، يؤكد د. حسن كمال، أستاذ الحديث بجامعة الأزهر، أن الوضع الأمثل للأسرة وجود كل أفرادها معاً، أما إذا تطلبت الضرورة اغتراب الأب بحثاً عن الرزق الحلال، فلا مانع من ذلك شرعاً لقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15)، ويرى جمهور الفقهاء أنه يجب ألا يغيب الزوج عن زوجته وأولاده أكثر من 6 أشهر بإذنها، واستندوا في ذلك لما قرره الفاروق عمر بن الخطاب حيث خرج ذات ليلة يتحسس أحوال الرعية في المدينة، فسمع امرأة غاب عنها زوجها تقول:
تطاول هذا الليل وأسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبـه
فوالله لولا الله أني أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه
فرجع الفاروق وسأل ابنته أم المؤمنين حفصة: كم أكثر ما تصبر المرأة عن غياب زوجها؟ فقالت: 6 أشهر، وقيل: 4 أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحداً من الجيوش أكثر من ذلك.
ويضيف أن الاغتراب لطلب الرزق الحلال لا مانع منه شرعاً، ولكن يجب ألا يكون على حساب الرعية التي سيسأل الله عنها المغترب لقوله صلى الله عليه وسلم: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ، فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ عليهم وهو مسؤولٌ عنهم والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ»، مع العلم أن وجود الزوجين مع أولادهما له مصالح كثيرة وحماية كبيرة وسعادة نفسية وعصمة خُلُقية لا توفرها أموال الدنيا.
يجب التقليل من مدة الاغتراب وسرعة لم شمل الأسرة
وتنصح د. هيام صابر بتعزيز التواصل مع الأبناء عبر وسائل التواصل، وتوفير الحماية والمساندة لأسر المغتربين من ذوي القربي المشهود لهم بالاستقامة الذين يمكنهم حل بعض المشكلات التي تتطلب تحركاً منهم، فضلاً عن دورهم في المتابعة الميدانية للأولاد لحمايتهم من رفقاء السوء ومن مختلف الأخطار التي تواجههم في حياتهم اليومية، كما تنصح زوجة المغترب -التي تقوم بدور الأم والأب معاً- بأن تحاول شغل وقت أولادها حسب مراحلهم العمرية وقدراتهم ومواهبهم في الأنشطة الدينية والثقافية والرياضية المفيدة والنافعة.