في ظل متغيرات عصرنا، وتقلبات حياتنا، أصبح فريق من الناس لا ينظر للأشياء إلا بمنظور الرأسمالية، التي لا تعتبر بغير الثمن، في تقدير الأشياء، ويقيِّم المجتمعات من خلال قدرتها على الصناعة والإنتاج.
لقد تسلل ذلك إلى بعض الألسنة التي تخرج على العامة في البرامج ومحطات التوجيه، وأصبح قطاع التعليم، الذي يرعى العلوم الإنسانية، ويقوم على تدريسها في محل الاتهام، وأصبح السؤال عن جدوى تدريس وتعليم العلوم الإنسانية للطلاب!
لقد أصبح لسان حال بعض من لا يعرف طبيعة الحياة الإنسانية أن يقول: نحن لسنا بحاجة إلا لمخترعين، ومصنعين، ومبتكرين، وطريق ذلك هو العلوم المدنية وليس الإنسانية!
بناء الحضارة
الحضارات التي عرفتها الدنيا لها طريقان: الإنسان، والعمران.
يقسم المفكر مالك بن نبي مراحل تطورات الإنسان إلى ثلاثة: الأشياء، الأشخاص، الأفكار، بهذا الترتيب تمر رحلة عمر الإنسان على الأرض، هنا يأتي السؤال: ما الأهم في مراحل عمر الإنسان؟ عالم أشيائه، أم عالم أفكاره؟
ويترتب على ذاك سؤال: هل بناء الإنسان أولًا؟ أم بناء العمران؟
وللجواب عن ذاك السؤال نرى في القرآن المجيد قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، ولفظ خليفة جاء مرتين في القرآن، وفي الورود الثاني يقول تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى) (ص: 26)، فالله تعالى ينبه نبيه داود عليه السلام أنه في مقابل اختياره تعالى له خليفة أن يحكم بين الناس بالحق، فلم يقل له: فلتكن مخترعاً، أو مبتكراً، أو مرتاداً للفضاء، بل الحكم بين الناس بالعدل.
العدل وحده هو الذي يضمن للمخترع والمبتكر الطريق الآمن نحو الريادة، وحين يغيب العدل وتغيب القوة المؤسسة له، فسيتم إحراق المخترع، واتهامه بالمروق، وحرمانه من الغفران.
والعدل قيمة إنسانية، تنشأ من العلوم الإنسانية، والتربية الفاضلة، وهي من المشترك الإنساني بين الأمم والحضارات والديانات، وجاءت بها كل الأديان من لدن آدم عليه السلام.
والمؤسس لقيمة العدل هو الدين، وقد تؤسس له العقول الصريحة.
والعقول لا تصح أبداً ولا تتطلع إلى الخير إلا ببناء أصحابها؛ بناء نفسياً واجتماعياً وأخلاقياً، وهي علوم الإنسان، فالذي يؤسس للعدل في الإنسان هو الدين، وربما العقل، لكنه العقل المؤهل نفسياً ومجتمعياً.
بين العمران والإنسان
إن السؤال الذي يجب طرحه: أيهما يأتي بالآخر، العمران يأتي بالإنسان، أم الإنسان يأتي بالعمران؟
وقبل أن نجيب عن هذا السؤال، لا بد أن نقول: أي العلوم تبني الإنسان، وأيها يبني العمران؟ فالذي يبني الإنسان هو الدين، التاريخ، الجغرافيا، علم النفس، الأدب، الفلسفة، والذي يبني العمران هو الهندسة، والطب، والفيزياء والكيماء والفلك..
لنا أن تخيل وطناً أقيمت فيه أعظم البيانات، وأسست فيه أعظم الحدائق، وبنيت فيه أفخم القصور، ولكن أشخاصه فقدوا الانتماء له، لأنهم لا يعرفون له تاريخاً، ولا يعرفون له حدوداً، أو أن الظلم شاع بينهم، أو شاع بينهم إدمان المخدرات، فاهتم من اهتم ببناء الشيء، وترك بناء النفس، فكيف يكون مآل العمران بين من سقطت نفوسهم في مهاوي الردى، ولم ينالوا حظاً من علوم الإنسان، التي تؤسس للأخلاق بداخله ونفسه؟!
في مجتمع آخر اهتم القائمون عليه ببناء الإنسان، في آدابه وأخلاقه، وفي تعريفه بأمجاد أسلافه، واتساع أوطانهم، وفي تعزيز القيم بداخله، كالرحمة والمروءة والشجاعة؛ فأي المجتمعين أكثر بقاء؟ وأيها أسرع فناء؟ وأيها أقدر على جلب الآخر؛ الإنسان يجلب العمران؟ أم العمران يجلب الإنسان؟
لنفترض أن وطناً اخترع أشد الأسلحة فتكاً، لكن رجاله نفوسهم خائرة، وليس في ذاكرتهم تاريخ لوطنهم؟ ولا يعرفون له جغرافية ولا حدوداً، فهل يتوقع منهم الدفاع عنه؟
لو تحدثنا عن حب الأوطان نحن نتحدث عن حدود، وتاريخ، وآداب، وأعراف، وقيم وفلسفات سائدة، ومن لا يملك من ذاك رصيداً فوطنه في نفسه بلا قيمة.
إن الجيوش إذا التقت في ميدان الحرب، فأهم ما يعتني به القادة هو عزيمة نفوس الجند، ولا يهاب ذوو العزيمة السلاح، ومعظم حروب التاريخ انتصر فيها هؤلاء، وقد خرجت دول عظمى من حروبها ذليلة منكسرة؛ رغم ما تملكه من سلاح بسبب عزائم المحاربين التي امتلأت بالأفكار، في مقابل من عزيمته السلاح فقط.
المشهد كما حدث
في مشهد متداول على صفحات التواصل الاجتماعي مجموعة من القرود امتطوا سيارة من الداخل والخارج، واقتصروا على ذاك، وقيل: امتلكوا السيارة وعجزوا عن القيادة، نعم الذي يجعلك تقود الشيء هو النفس، العقل، التفكير، التدبير، وكلها تنشأ من علوم الإنسان، أما السيارة فقد صنعتها الهندسة والميكانيكا.
هناك فارق هائل بين تدمير الأفكار، وتدمير الأشياء، يقول مالك بن نبي: لقد أرانا تاريخ ألمانيا الحديث؛ كيف أن بلداً شهد الانهيار الكامل لعالم أشيائه، استطاع باحتفاظه بعالم أفكاره أن يبني كيانه من جديد(1)، ولو أن أفكاره -وليدة العلوم الإنسانية- هي التي تهاوت، ما استطاع أن يعود لعالم أشيائه.
حين اخترع صمويل كولت المسدس، قال: الآن يتساوى الجبان مع الشجاع، والحق أن الحوادث أثبتت أنها مقولة بلا قيمة، فقد ملكت قوى عظمى السلاح وانهارت أمام القوى التي ملكت الأفكار الشجاعة، فلا قيمة لسلاح قوي يملكه من عقيدته خائرة.
العدو الرابض
حين فشلت حملة لويس التاسع، بعد عقود هائلة من محاولات السيطرة على قلب العالم الإسلامي، وتم سجنه في مصر، ترك بعد خروجه وصية لا تزال دستوراً يعمل الغرب من خلالها، فقد رأى أن السيطرة لا بد أن تبدأ من القيم والأخلاق، وأن تكون سيطرة على النفوس، ومن هنا بدأت سياسات الغرب التي تمخضت في النهاية عن شرور لا توصف، أولها الاحتلال لمعظم دول المسلمين، والثاني زرع كيان غاصب في قلب دولهم.
القرآن والحضارات
لقد حدثنا القرآن عن حضارات تم محوها لما اهتم أهلها بالشيء على حساب القيم والأخلاق، وهي التي تعني بها العلوم الإنسانية، قال تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) (الدخان).
وهكذا كل الحضارات التي بادت، كانت بسبب انشغالها أهلها بالعمران وتركها الإنسان تتبادله الشهوات، ويعيش تحت سلطان الهوى، مثلما حدث لقوم عاد، وثمود، وفرعون.
بناء الهوية
إن بناء الهوية المتفردة للأمم لا يمكن أن تقوم به علوم الآلة، وما يمنع المرء من أن يعمل جاسوساً ضد بلده إلا إيمانه العميق بضرورة الإخلاص والوفاء له، وهذا لا تولده الهندسة ولا الكيمياء ولا أي علوم مدنية، بل العلوم الإنسانية.
ما يجعل الإنسان يبر أبويه ويصل رحمه إلا القيم المكتسبة من الدين، والأعراف الإنسانية، ولو نظر المرء لذلك بمعادلات العلوم المدنية؛ لوجد أنه يخسر وقته وجهده فيما لا يعود عليه بطائل!
كما أن معرفة حقوق الإنسان وواجباته لا تكفله العلوم المدنية، بل العلوم المدنية بحاجة للقيم التي تولدها العلوم الإنسانية، فالإتقان في العمل قيمة تولدها العلوم الإنسانية، كذلك الأخلاق قيمة إنسانية عظمى، وهي علم إنساني راسخ في كل الحضارات، وعلوم الآلة بحاجة إليه ماسة.
النظرة التسليعية للأشياء من حولنا يعني أنه يجب التخلص من التعليم، لأنه لا يدر ربحاً كالذي تدره المصانع والبنوك، وعلينا أن نتخلص من رعاية الفقراء لأنه عبء مالي على ذوي الأموال!
وعلينا ألا نرحم صغيراً ولا نوقر كبيراً، فالكل في مدارات الحياة سواء!
ثم هذا لا يعني الاستغناء عن العلوم المدنية، بل يعني أن يوضع كل شيء في موطنه، وأن يستعان بكل علم بقدر الحاجة إليه، ولا غناء لعلم عن علم.
_______________________
(1) مشكلة الثقافة، ص35.